إعلان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، فرض واشنطن قيود على التأشيرات تستهدف المستوطنين المتورّطين في أعمال مخلّة بالأمن والاستقرار في الضفة الغربية، ليس لفتة عاطفية تجاه الفلسطينيين، بل إنّه خشية على إسرائيل نفسها ومن شرّها.
قبل “طوفان الأقصى”، كان الودّ مفقوداً بين الإدارة الديمقراطية للرئيس جو بايدن وحكومة اليمين المتشدّد برئاسة بنيامين نتانياهو. كانت تخشى أن تتسبّب نزعة التطرّف التي سادت في الدولة العبرية بحرب أهلية داخلية. لم تقتصر هذه الخشية على البيت الأبيض. كان يتشارك فيها مع رهط كبير من ناشطي المنظمة الصهيونية الذين كان يقلقهم التشرذم والانقسام الحاصل في الكيان.
إعلان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، فرض واشنطن قيود على التأشيرات تستهدف المستوطنين المتورّطين في أعمال مخلّة بالأمن والاستقرار في الضفة الغربية، ليس لفتة عاطفية تجاه الفلسطينيين، بل إنّه خشية على إسرائيل نفسها ومن شرّها
التعديلات القانونية وقانون إلغاء الحجّة القانونية والمسّ بصلاحيّات المحكمة العليا، التي سعى إليها نتانياهو وشريكاه الوزيران المتطرّفان إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، كادت تطيح استقرار الدولة العبرية قبل العدوان. هذه المساعي القضائية أخرجت قائد الحرب الحالي يوآف غالانت من الحكومة مؤقّتاً قبل أن يعود الى منصبه، وأثارت القلق في صفوف ضبّاط الجيش الذين يعتبرون أنّ المحكمة الإسرائيلية العليا هي الدرع الواقي للجنود في وجه الدّول الغربيّة التي تعترض على شرعية السياسة في الأراضي المحتلّة 1967، وكذلك في مقابل محاكم دولية تُرفع فيها دعاوى ضدّ إسرائيل بشبهة ارتكابها جرائم حرب في تلك الأراضي المحتلّة.
خوفاً من حرب أهلية إسرائيلية
كذلك بثّت الخوف في صفوف العلمانيين و”الديمقراطيين” من أن تتحوّل إسرائيل إلى ديكتاتورية، لا سيما بعد قرار الحكومة إنشاء ميليشيات عسكرية خاصة موازية للجيش والشرطة تحت اسم “الحرس الوطني”، بقيادة بن غفير، على أن تضمّ الآلاف من المجنّدين السابقين والمستوطنين المتطرّفين، تكون مهمّتها ليس فقط مواجهة الفلسطينيين، بل أيضاً قمع التظاهرات الشعبية الإسرائيلية المناهضة للحكومة، على غرار ما هو حاصل في دول شرق أوسطية عدّة.
وهي فعلاً اصطدمت مراراً مع اليساريين والعلمانيين اليهود. وهكذا لم يعد الخوف من الحرب الأهلية مجرّد نقاش سياسي، بل صار يعكس أيضاً حالة عامّة وجوّاً يسود الجمهور الإسرائيلي عموماً. ففي استطلاع أجرته صحيفة “معاريف” قبل الحرب، أعرب 58 في المئة من الإسرائيليين عن تخوّفهم من اندلاعها.
بعد الحرب أخذت الأمور منحى تصعيدياً، إذ استغلّ الثنائي بن غفير وسموتريتش صدمة غلاف غزّة والتوتّرات الحاصلة في الضفة الغربية، من أجل إعلان حال الطوارئ والتعبئة العامة وإطلاق حملة لإغراق المستوطنات بالسلاح وتوفير الدعم الضروري للمسلّحين الذين راحوا يتشكّلون في ما يشبه العصابات المسلّحة والميليشيات التي تجاوز عددها 700 مجموعة قتالية، إضافة إلى 40 فرقة تابعة للحرس، وسط صمت إسرائيلي، وهو ما يرفع أعداد المستوطنين من حمَلة السلاح إلى أكثر من 160 ألفاً، وهي مرشّحة للوصول إلى نصف مليون.
هذا يعني أنّ إسرائيل أمام جيش من المسلّحين غير النظاميين يوازي الجيش الرسمي البالغ عديده 170 ألفاً في الخدمة الفعلية. هذه الميليشيات كان لها الدور الأبرز في ممارسة القمع ضدّ الفلسطينيين في جنين ونابلس والخليل وطولكرم ومصادرة الأراضي وجرف البساتين والاستيلاء على الممتلكات. ولم يقتصر دورها على الضفة، بل امتدّ شمالاً إلى المستوطنات المحاذية للبنان وجنوباً إلى النقب ومستوطنات الغلاف.
يشهد المجتمع الإسرائيلي انقساماً حادّاً بين تيّارين كبيرين، ولذلك يصير الشرخ السياسي والخشية من الاشتباك المسلّح بعد إخماد نيران العدوان في غزة، هاجساً ليس فقط للإسرائيليين، بل لرعاتهم الأميركيين
ارتفاع الجرائم بسبب انتشار السلاح
لكنّ السلاح في يد المتطرّفين خارج القانون لا يستهدف فقط “أعداء الخارج”، بل يجرح أصحابه أيضاً وأهل البيت. وبالفعل تحوّل إلى أداة للثأر ووسيلة لتصفية حسابات شخصية محلية وحلّ خلافات منزلية وعائلية لا علاقة لها بالحرب الدائرة، ذلك أنّ التسليح الجماعي هو دعوة مفتوحة إلى زيادة الجرائم، وهو ما رفع الصوت مجدّداً في صفوف المعارضة الإسرائيلية التي استرجعت المخاوف الداخلية التي سبقت الحرب في غزة، وبات القلق واضحاً من رؤية “دويلة” داخل “الدولة” باسم الأمن الذاتي، ومن أن تنسحب تجارب بعض الدول المجاورة إلى الداخل الإسرائيلي المصاب بألف علّة وعلّة، والذي يشكو من ألف انقسام وخلاف.
اللجوء إلى السلاح لتأمين الأمن الشخصي، يعني تغييب الدولة التي يفترض أن تكون الحامية لمواطنيها. والخطر الأدهى أنّ ميليشيات كهذه تلقى الدعم من اليمين القومي المتشدّد، قد تتحوّل مع الوقت إلى جيش عقائدي عنصري متراصّ الصفوف تكون الطاعة فيه عمياء، ولا يعترف بمرجعيات ولا بخرائط ولا بقرارات دولية، ولا يكتفي بالدعوة إلى التخلّص من الفلسطينيين وطردهم، بل يعادي كلّ من يعاديه سياسياً وأيديولوجياً، لا سيما اليسار والعلمانية اللذين يطالب بن غفير بإزالتهما من الصهيونية.
إقرأ أيضاً: إسرائيل: إبادة جماعية… تنفيذاً لـ”وعد إلهيّ”
يشهد المجتمع الإسرائيلي انقساماً حادّاً بين تيّارين كبيرين، ولذلك يصير الشرخ السياسي والخشية من الاشتباك المسلّح بعد إخماد نيران العدوان في غزة، هاجساً ليس فقط للإسرائيليين، بل لرعاتهم الأميركيين، حيث أثبتت الحرب الحالية أنّ واشنطن هي الأمّ والأب لهذا الكيان. وتأكيداً لهذه الحقيقة يكفي ما قاله بايدن مراراً وتكراراً: “لو لم تكن هناك دولة إسرائيل، لوجب علينا إيجادها للتأكّد من حماية مصالحنا”.