بيروت – يتوجه اللبنانيون المقتدرون مادياً لاستبدال عملاتهم الورقية بالذهب وادخاره كملاذ آمن، مدفوعين بقلقهم من المستقبل بعد الأزمات المالية والاقتصادية التي عصفت ببلاد الأرز، وثقتهم بالمعدن الأصفر.
ويتخذ الذهب قيمته الفعلية من ديمومته ومقاومته للفناء، فيما تتمثل أهميته في اندراجه في صميم الحياة الاجتماعية اللبنانية باعتماده في نظام تبادل العطايا أو الهدايا للتعبير عن المحبة والصداقة والثناء، وإظهار المكانة الاقتصادية والاجتماعية.
ومنذ بداية الأزمة النّقدية في لبنان في العام 2019 بدأت أرقام استيراد سبائك الذهب بالارتفاع تباعًا، إذ استورد لبنان حينذاك سبائك ذهبية بقيمة 476 مليون دولار بدءًا من العام 2019 إلى أن وصل الرّقم إلى 1.130 مليار في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023 بحسب دراسة نشرتها “الدولية للمعلومات”.
وسَجّل تصدير السبائك انخفاضًا بدأ في العام 2019 بقيمة 1.132 مليار دولار أميركي إلى أن وصل إلى 122 مليون دولار في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023، مما يظهر أنّ اللبنانيين يستبدلون العملات النقدية ليحصلوا على الذهب كسبيل للادخار.
وساهمت أزمة المصارف التي شهدها لبنان منذ بدء الأزمة المالية في العام 2019 في اندفاع بعضهم لاستبدال العملات الورقية بالذهب بعد أن فقد اللبنانيون مدخراتهم في المصارف، فيما يعيش 80 في المئة منهم في فقر متعدد الأبعاد.
ارتفاع سعر الذهب منذ حوالي عقدين رفع منسوب الثقة به للبنانيين كبديل عن العملات الورقية المعرضة للانهيار
وقال بيار بعقليني صاحب مؤسسة “بعقليني” للمجوهرات لوكالة الأنباء الألمانية “يُعتبر الذهب الملاذ الآمن لكل من يرغب في الادخار للمستقبل لأنه المعدن الوحيد الذي ترتفع قيمته. ومنذ الأزمنة القديمة وحتى اليوم لا يزال الذهب موجوداً ومتداولاً”.
وأضاف “يمثّل الذهب الكنز الذي لم يفقد قيمته عبر العصور، وهو يرتبط كثيراً بالمرأة اللبنانية ويرافقها على شكل هدايا في كافة محطات حياتها من الولادة إلى ‘العماد’ (طقس ديني يمارسه المسيحيون) إلى التخرج من الجامعة، ثم الخطبة والزواج. وعندما يهدي الزوج زوجته قطعةً من الذهب، فإنه يفعل ذلك بهدف تكريمها وإظهار محبته لها من ناحية، وبهدف ادخار أمواله من ناحية أخرى”.
وتابع بعقليني “خلال السنوات الثلاث الماضية ارتفعت مبيعات الذهب في مؤسستنا بنسبة 25 في المئة في كل سنة”، موضحاً أن “ارتفاع سعر الذهب بشكل دائم شجع الناس على استبدال بعض مدخراتهم من العملات الأجنبية للحصول على الذهب. وبعضهم يدّخر حالياً ليرة ذهبية كل شهر، أو نصف ليرة، أو أونصة، كلّ حسب قدرته”.
وكشف بعقليني أن “إقبال اللبنانيين على شراء الذهب مؤخراً مرده إلى أزمة المصارف، حيث فقد الناس ثقتهم بتلك المصارف وامتنعوا عن وضع أموالهم فيها، فتوجهوا إلى شراء الذهب، بدل الاحتفاظ بالأوراق النقدية المعرضة للتلف، حيث غالبيتهم كانوا يشترون الأونصات السويسرية لكي يتمكنوا من بيعها خارج لبنان إذا اضطروا لترك بلادهم”.
ورأى أن “الدول تستخدم الذهب لتثبيت عملتها الوطنية. فالذهب هو المعدن الآمن والمربح، وقيمته تسير بخطى ثابتة باتجاه الارتفاع”.
وعن انخفاض تصدير الذهب من لبنان، قال بعقليني “إن لبنان كان يصدر الذهب المشغول سابقاً إلى دول الخليج، أما اليوم فسوق الخليج باتت مغلقة إلى حدّ ما بوجه اللبنانيين، بسبب منافسة السوق الهندية للسوق اللبنانية، والكلفة العالية لصناعة الذهب في لبنان بسبب الأزمة الاقتصادية التي يمر بها، وأزمة الكهرباء، بالإضافة إلى الوضع السياسي المتأزم مع دول الخليج خلال السنوات الماضية”.
وأشار إلى أن “بيروت كانت مركزاً لتوزيع الذهب على مناطق الشرق الأوسط،، ومنذ أكثر من عشر سنوات باتت دبي تقوم بهذا الدور”.
وللذهب بورصة وأسعار عالمية تتأثر صعوداً ونزولاً بالأوضاع المالية والاقتصادية والأمنية والسياسية في العالم وبحركة العرض والطلب باعتباره السلعة المضمونة القابلة للتداول.
الذهب يدر الملايين
ولكن ارتفاع سعره منذ حوالي عقدين ما رفع منسوب الثقة به كبديل عن العملات الورقية المعرضة للانهيار كما حصل مع العملة الوطنية اللبنانية التي فقدت أكثر من 90 في المئة من قيمتها خلال السنوات الثلاث الماضية.
ومنذ الإعلان عن انهيار ثلاثة مصارف في الولايات المتحدة هي “سيليكون فالي بنك” و”سيغنتشر” و”سيلفر جيت”، في مارس الماضي، ارتفع إقبال اللبنانيين على استبدال عملاتهم الورقية للحصول على الذهب خشية انهيار أسعار العملات الأجنبية.
وقال هادي المتخصص في الاقتصاد الذي فضل عدم ذكر اسمه كاملاً لوكالة الأنباء الألمانية “إن الذهب يكتسب أهميته من كونه يجسد قيمة ملموسة ومرتفعة، بالمقابل تحدق المخاطر بالدولار الأميركي، في ظل وجود العملات الرقمية الذاهبة على الأرجح للحلول محلّه”.
وأضاف “قمت مؤخراً باستبدال بعض مدخراتي من العملات الأجنبية مقابل الذهب لأكون بمنأى عن مخاطر تقلبات العملات الورقية والانهيارات التي قد تتعرض لها. وكنت أفضل استبدال مدخراتي من العملة الأجنبية والحصول على العملة الرقمية، ولكن نظام العملات الرقمية في لبنان لا يحظى بالثقة الكافية”.
وأوضح أن “ارتفاع سعر الذهب منذ حوالي 15 سنة يشكل ضمانة أكبر من العملات الورقية، خاصةً مع تحول الدولار إلى دولار سياسي، وانهيار عدد من البنوك في أميركا في مارس الماضي”.
منذ الإعلان عن انهيار ثلاثة مصارف في الولايات المتحدة ارتفع إقبال اللبنانيين على استبدال عملاتهم الورقية للحصول على الذهب خشية انهيار أسعار العملات الأجنبية
وأشار إلى أن “القاعدة الذهبية كنظام نقدي استخدمت منذ سبعينات القرن التاسع عشر، وكانت جميع دول العالم الصناعية الكبرى تستخدم العملات الذهبية، حيث لعب الذهب دور مقياس القيمة ووسيط التبادل. وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914 انهارت القواعد التي قام عليها نظام الذهب”.
وأضاف “في ثلاثينات القرن الماضي لم يعد الذهب يلعب دور النقود في الاقتصاديات المحلية، وبات يتواجد في البنوك المركزية، وأصبح الدولار الأميركي ممثّلاً للذهب في النظام النقدي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن وعلى الرغم من ذلك فإن غالبيّة الحكومات والبنوك المركزية مازالت تحتفظ باحتياطات مكدسة من الذهب وهذا دليل على أهمية الثقة بالذهب”.
ويستخدم الذهب بشكل أساسي في صناعة الحليّ والاستثمارات المالية بنسبة 90 في المئة من استهلاك الذهب، في حين أنّ 10 في المئة المتبقية يدخل فيها الذهب في المجالات المختلفة مثل الصناعات الإلكترونية والتطبيقات الطبية.
ويعود استخدام الذهب لأغراض الزينة إلى العصور الضاربة في التاريخ، وتظهر الاكتشافات الأثرية أن المشغولات الذهبية عرفت في الألفية الرابعة قبل الميلاد.
ولا شك أن ثقة اللبنانيين بالمعدن الأصفر وتقديرهم له مرتبطان بما يتمتع به من خصائص مميّزة، خاصةً أنه يحضر في الأمثال الشعبية اللبنانية ويرمز إلى السلطة والثروة والصفاء والنقاء والفضيلة.
العرب