في محاولة لتصحيح بعض الأخطاء الشائعة، نود الإشارة إلى أن «إنجرليك» هي قاعدة عسكرية جوية تركية، تعود ملكيتها ومسألة السيادة والإشراف عليها وإدارة شؤونها بالكامل للدولة التركية.
إنها ليست قاعدة أطلسية، لكن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تستفيد من حق استخدامها في إطار عقود توقع تحت سقف الحلف الذي انتسبت تركيا إليه في عام 1952، أو على ضوء اتفاقيات عسكرية ثنائية كما جرى في مارس/آذار عام 1980، وفقاً لـ«اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي» الموقعة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية .
وتعد «إنجرليك» واحدة من أهم القواعد العسكرية التركية الاستراتيجية بسبب موقعها الجغرافي المطل على سواحل البحر الأبيض المتوسط والقريب من دول الشرق الأوسط وإيجه والبحر الأسود والعالم السوفياتي القديم.
تشغل «إنجرليك» مساحة 1335 هكتاراً، وتحوي مدرجين وحظائر طائرات تستوعب نحو 60 مقاتلة حربية، وفيها أسراب قتالية جوية وأمريكية وأطلسية أخرى عند اللزوم، فرضتها لعبة معادلات وتوازنات سياسية وأيديولوجية وجغرافية معينة تبدلت في غالبيتها اليوم، لكن القاعدة ما زالت بالنسبة لـ«الأطلسي» بوابة عسكرية أمنية لا تقل أهمية عن 5 قواعد أطلسية أساسية في أوروبا .
صدر قرار تأسيس «إنجرليك» في عام 1943 إبان الحرب العالمية الثانية أي قبل ولادة حلف الناتو، في إطار تفاهمات تركية – غربية، لكن التنفيذ تأخر 5 سنوات لتكتمل عملية البناء عام 1954 .
استخدمت القاعدة في أكثر من عملية أمنية بطابع إقليمي ودولي كما حدث في عام 1958 إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وفي عام 1967 في أثناء الحرب العربية الإسرائيلية.
وكانت القاعدة في قلب نقاشات أزمة الصواريخ الروسية في كوبا في مطلع الستينيات، ودخلت لعبة المقايضات والتسويات القائمة على سحب السلاح الذري الأمريكي من القاعدة التركية مقابل سحب موسكو لمنظومة صواريخها البعيدة المدى من كوبا.
كما لعبت «إنجرليك» دورا محوريا خلال فترة الحرب الباردة ورصد حركة الطيران السوفياتي في مساحة جغرافية واسعة، ووصلت أرقام الرؤوس النووية التي نشرتها واشنطن في القاعدة إلى 150 قنبلة، حسب الكثير من التقديرات لمواجهة النفوذ السوفياتي والروسي لاحقا.
تعالت قبل أيام بعد انفجار الوضع في قطاع غزة والدعم الأمريكي الواسع لتل أبيب، الأصوات التركية المطالبة بإخراج القوات الأمريكية من القاعدة وحظر استخدامها على هذا الحليف، إنها ليست المرة الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فهل تغلق تركيا أبواب «إنجرليك» في وجه أمريكا؟
لن يكون ذلك مفاجئا لأحد، فقد طرح الموضوع أكثر من مرة كلما توترت العلاقات بين تركيا وحلفاء الأطلسي وتحديدا بين أنقرة – واشنطن. تكرر ذلك نتيجة الخلافات والتباعد في ملفات جزيرة قبرص وقرارات الغرب حظر السلاح على تركيا في عام 1975، ثم في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا عام 2016، وبعدها عام 2019 إثر التقارب والانفتاح التركي الروسي في صفقة صواريخ إس – 400 التي اشترتها أنقرة من موسكو، والرد الأمريكي من خلال استبعاد تركيا عن مشروع المقاتلة إف – 35، وكذلك في عام 2021 نتيجة قبول واشنطن أحداث عام 1915 الأرمينية على أنها عملية إبادة.
تكرر المشهد اليوم نتيجة الدعم الأمريكي العلني للجانب الإسرائيلي في استهداف قطاع غزة، مما باعد بين تركيا وأمريكا، ودفع البعض لطرح الموضوع من جديد.
تتوتر العلاقات التركية الأمريكية فتدفع قاعدة «إنجرليك» العسكرية في جنوب تركيا الثمن. تقترب أنقرة من موسكو فينتقل مصير القاعدة إلى الواجهة. تعرقل تركيا عضوية السويد الأطلسية فتتحول الأنظار نحو «إنجرليك» مرة أخرى.
كل هذا هو بين الأسباب الرئيسية التي تدفع واشنطن منذ 3 أعوام تحديدا للبحث عن بدائل وخيارات عسكرية جديدة تجنبها أي سيناريو سوداوي مفاجئ؛ مثل إنهاء أنقرة لعقود تقديم الخدمات العسكرية لواشنطن في هذه القاعدة.
سبب قلق الإدارة الأمريكية هو التباعد الحاصل بين البلدين في ملفات ثنائية وإقليمية عديدة، ولجوء تركيا لتحويل المسألة إلى ورقة ضغط سياسي وعسكري يهدد مصالح واشنطن ونفوذها في المنطقة.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سبق وتحدث عن خيار بهذا الاتجاه في حال تضاربت المصالح وتباعدت الحسابات، وأدى ذلك إلى تزايد التقارب والانفتاح التركي الروسي في القوقاز والقرم والشرق الأوسط، وهو ما سيقوي التموضع الروسي وتمدد نفوذ موسكو في الإقليم، خصوصا بعد بناء العديد من القواعد العسكرية الجوية في سوريا.
ما يوصف في أنقرة بـ«عملية الرد الانتقامي» من خلال تحريك ورقة «إنجرليك»، يوصف في واشنطن بـ«عقاب قادم لا مهرب» منه، يتمثل بالتوجه نحو أثينا ونيقوسيا نتيجة التحول في سياسات تركيا ومواقفها الإقليمية، فهل تكون كريت اليونانية مثلا بديلا لقاعدة «إنجرليك»؟ ومن يستطيع الحول دون ذلك؟
صحيح أن هناك تزايدا في عدد الأصوات التركية التي تدعو لإغلاق القاعدة وحظرها على الاستخدام الأمريكي، وهناك في المقابل من يطالب في واشنطن بالتفكير الجدي في مسألة نقل الجنود الأمريكيين من جنوب تركيا، لكن هناك قناعات أخرى في البلدين ترى أن «إنجرليك» تتمتع ببنية تحتية كبيرة وتم الاستثمار فيها أمريكيًا لعقود، ولا يمكن أن تعوّضها قاعدة كريت.
إن زيادة اعتماد الولايات المتحدة على اليونان وقبرص اليونانية في شرق المتوسط وإيجه هو مطلب استراتيجي أمريكي جديد، لكن التخلي عن «إنجرليك»، وذهاب واشنطن وراء خيارات عسكرية وسياسية من هذا النوع، يعني قبول دخول مغامرة غير محسوبة النتائج في علاقاتها مع أنقرة وهي لن تفعل ذلك.
كلا الطرفين يعرف جيدا ما هو المطلوب منه وأين عليه أن يتوقف عند كل تصعيد، والابتعاد عن سيناريو سوداوي بهذا الاتجاه.
الحل هو أن تعود واشنطن إلى سياستها الكلاسيكية المعتمدة منذ مطلع الخمسينيات عندما قررت قبول تركيا واليونان معا في الناتو وتبني دبلوماسية متوازنة في علاقاتها مع أنقرة وأثينا، وأن تعود تركيا إلى سياستها الواقعية التي تبنتها مع الغرب قبل عقود للاستثمار في العلاقات السياسية والاقتصادية التي تتطلب في الوقت نفسه حماية خطوط التواصل السياسي والاقتصادي التي تم تمديدها مع روسيا في السنوات الأخيرة .
صحيح أن التقارب التركي الروسي الواسع سيكون له تأثيره على العلاقات التركية الغربية، ومن الممكن القول إنه ستكون هناك ارتدادات سلبية للسياسة الأمريكية المعتمدة في سوريا وفي شرق الفرات تحديدا من خلال التمسك بحليفها المحلي هناك «قوات سوريا الديمقراطية»، التي ترى فيها شريكا مهما في الحرب على مجموعات داعش فيما تعتبرها أنقرة مجموعات امتدادية لعناصر «حزب العمال الكردستاني».
لا يمكن تجاهل ما تقوله بعض الأقلام المتشددة في تركيا التي تعتبر أنه لم يعد لعلاقات التحالف مع الناتو أو الصداقة مع الولايات المتحدة أي أهمية، بعدما تحولت واشنطن وبعض الحلفاء إلى تهديد من الدرجة الأولى لدولة استطاعوا التضحية بها من أجل حسابات ضيقة.
لكنّ هناك في المقابل دائما في أنقرة من يفكر مثل وزير الخارجية التركي الأسبق مولود جاويش أوغلو الذي يرى أن العلاقات التركية الأمريكية هي فوق الأحزاب والأشخاص، وهي محمية بحكم التحالفات والاتفاقيات الاستراتيجية القديمة، كما أن هناك في واشنطن قيادات سياسية وعسكرية رفيعة تردد دائما أنها ليست معنية بالتصعيد مع أنقرة، خاصة بالنظر إلى وضع تركيا الإقليمي وخطط مواجهة النفوذ الإيراني، ما يذكر دائما بالقيمة الاستراتيجية لتركيا التي لا يمكن التفريط بها.