قبل دخول الحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة يومها العشرين، ضخت الآلة الإعلامية والدبلوماسية الأمريكية على المستوى الإقليمي والعالمي سؤالاً معقداً للغاية ويبدو منطقياً وبريئاً: ما هو مستقبل غزة بعد انتهاء العدوان عليها وإنهاء الوجود العسكري والسياسي لحماس؟
وسرعان ما انشغلت الدوائر السياسية والدبلوماسية والبحثية والإعلامية حول العالم، وخصوصاً الغربي، بتقديم إجابات للسؤال، اتخذت كلها صورة السيناريوهات أو البدائل التي يمكن اللجوء لأحدها أو لخليط منها.
والحقيقة أن طرح هذا السؤال بصيغته تلك قد أتى بعد أن تم الإجهاز النهائي على البديل الأمثل لحكومة اليمين الديني المتطرفة في إسرائيل، وهو تهجير كل الفلسطينيين أبناء غزة إلى سيناء في مصر، حيث يستقرون هناك للأبد، وبالتوازي أو بعدها بقليل، ترحيل كل أبناء الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن، حيث يصبحون، وأيضاً للأبد، جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية.
وقد كان خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الأكاديمية العسكرية المصرية قبل انتهاء اليوم السادس للحرب، هو بداية الرفض العلني الحاسم والقاطع من مصر لهذا البديل، الذي يؤدي في وقت واحد، وبحسب تعبيرات الرئيس، إلى تصفية القضية الفلسطينية والتهديد الخطير للأمن القومي المصري.
ولم يتأخر الأردن كثيراً، فقد عقد قائدا البلدين لقاءً في القاهرة بعد أسبوع من خطاب الرئيس المصري، لكي يعلنا بصورة مشتركة حاسمة وقاطعة، رفض بلديهما “سياسات العقاب الجماعي من حصار أو تجويع، أو تهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى مصر أو الأردن، ومحذرين من الخطورة البالغة لهذه الدعوات والسياسات على الأمن الإقليمي”.
وترتب على هذا الموقف الحاسم وخلال كل الأيام التالية وحتى اللحظة، أن الغالبية الساحقة من دول العالم، إن لم يكن جميعها، قد قابلت هذه الفكرة بالرفض التام، مما أودى بها تقريباً إلى الفشل الكامل على صعيد المجتمع الدولي كله ودون استثناءات.
هنا وجدت حكومة اليمين الديني المتطرف في إسرائيل نفسها في مأزق حقيقي، فهي لم تدخل غزة فقط للانتقام من عملية “طوفان الأقصى” والقضاء على حركات المقاومة وخصوصاً حماس، بل بدأت عدوانها على القطاع وأمعنت فيه بكل وحشية، وليس لديها سوى سيناريو واحد، وهو التهجير القسري لأهله نحو سيناء المصرية، ثم إعادة احتلاله وضمه إلى “أرض إسرائيل” التي يرى ذلك اليمين أنها “الموعودة”.
وبمرور أيام وساعات العدوان الدموي وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا من المدنيين أبناء غزة، وبدء الغزو البري قبل 10 أيام، وعدم حسم الأمر حتى اللحظة، كانت المهمة العاجلة هي طرح التساؤل الذي أشرنا إليه في مقدمة هذه السطور حول مستقبل غزة بعد انتهاء العدوان والحرب.
والحقيقة أن طرح السؤال قد أتى أولاً من الولايات المتحدة، إدارة وإعلاماً ومراكز بحثية، للإدراك المؤكد أن البديل الوحيد الذي كان مطروحاً من حكومة اليمين الديني المتطرف الإسرائيلية لن يتحقق أبداً بعد الحسم الصارم المصري – الأردني برفضه وانضمام المجتمع الدولي كله تقريباً لهذا الرفض.
وقد كان الدافع الأمريكي لطرح السؤال بهذه الطريقة، هو مساعدة الحليف الإسرائيلي، المندفع بطريقة هوجاء في العدوان على غزة، على إيجاد مخرج له بعد أن تضع الحرب أوزارها، بعد أن انهار بديله الوحيد وافتقاده لأي تصور عملي آخر يمكن له أن يطبق حينها.
وعلى تعدد الإجابات التي قدمتها مختلف الجهات الأمريكية، وبعض الجهات الأوروبية، لهذا السؤال، فقد اتسمت كلها بثلاث خصائص. الأولى، الافتراض المتيقن بأن الحرب الإسرائيلية على غزة سوف تنتهي بانتصار إسرائيلي حاسم والقضاء على كل أشكال المقاومة بها، والسيطرة الكاملة لتل أبيب عليها عسكرياً وأمنياً وسياسياً.
أما الثانية، فهي أن الغالبية الساحقة من الإجابات كانت تحتوي على أدوار رئيسية متعددة مقترحة لأطراف دولية وإقليمية، وكان الدور الفلسطيني فيها جميعاً تقريباً غائباً تماماً أو ضعيفاً للغاية.
أما الثالثة، فهي أن كل الإجابات المقدمة، أمريكياً على الأقل، لا تتحدث سوى عن مستقبل غزة، ولا تلقي أي بال يذكر لوحدة الشعب الفلسطيني وقضيته ولا لوجود الضفة الغربية المحتلة ولا لفلسطينيي المهجر، وكأن صراع السنوات الخمس والسبعين التي مضت لم يكن سوى صراعاً حول غزة، وليس مجمل هذا الشعب وقضيته وحقوقه العادلة المسلوبة، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة على أراضيه قبل 4 يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إن نفس هذه الخصائص الثلاثة للسؤال وإجاباته، هي التي تؤكد أنه طرح في الوقت والسياق غير الواقعيين، وأن كل الإجابات لن تقدم حلاً حقيقياً لأقدم وأعقد صراع في عصرنا الحديث، بل ستطيله من جديد إلى آماد لا يستطيع أحد التنبؤ بها.