ليس بمقدور أي بلد أن يقدم عرضاً ذا صدقية للعالم إذا لم تكن جادة في ما يتعلق بالتغير المناخي. ورثت إدارة بايدن فجوة هائلة بين الطموح والواقع عندما يتعلق الأمر بالحد من الكربون. تقود الولايات المتحدة الآن عملية النشر العالمي لتكنولوجيا الطاقة النظيفة على نطاق واسع. ولأول مرة، ستفي البلاد بالتزامها الوطني بموجب اتفاق باريس للحد من صافي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والالتزام العالمي بجمع 100 مليار دولار سنوياً للبلدان النامية للتعامل مع التغير المناخي. وقد أطلقت مبادرات مشتركة مثل “شراكة التحول العادل للطاقة” مع إندونيسيا، والتي من شأنها تسريع انتقال قطاع الطاقة في ذلك البلد بدعم من المصادر العامة والخاصة.
لا تتمثل الغاية من الشراكات الجديدة الملائمة لأغراضها المنشودة في أن تحل محل المؤسسات الدولية القائمة. وتعمل إدارة بايدن على تعزيز وتنشيط تلك المؤسسات، وتحديثها بما يتناسب مع العالم الذي نواجهه اليوم. وفضلاً عن تحديث البنك الدولي، اقترح الرئيس أيضاً منح البلدان النامية دوراً أكبر في صندوق النقد الدولي.
وستمضي الإدارة في محاولة إصلاح منظمة التجارة العالمية، حتى تتمكن من دفع التحول إلى الطاقة النظيفة، وحماية العمال، وتعزيز النمو الشامل والمستدام مع الاستمرار في دعم المنافسة والانفتاح والشفافية وسيادة القانون. وقد دعا الرئيس إلى إجراء إصلاحات شاملة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لزيادة عدد أعضائه، الدائمين وغير الدائمين، وجعله أكثر فاعلية وتمثيلاً.
يدرك الرئيس أيضاً أن الدول في حاجة إلى أن تكون قادرة على التعاون في مواجهة التحديات التي لم يكن من الممكن فهمها قبل وقت ليس ببعيد. وتبرز ضرورة هذه الحاجة الملحة بشكل خاص في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي. ولهذا السبب جمعنا الشركات الأميركية الرائدة المسؤولة عن ابتكار الذكاء الاصطناعي لتقديم سلسلة من الالتزامات التطوعية لتطوير الذكاء الاصطناعي بطرق آمنة ومضمونة وشفافة.
ولهذا السبب تعهدت حكومة الولايات المتحدة نفسها بتحقيق هذه الغاية، وأصدرت في شباط (فبراير) إعلاناً في شأن الاستخدام العسكري المسؤول للذكاء الاصطناعي. ولهذا، نبني على هذه المبادرات من خلال العمل مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها وبلدان أخرى لتطوير قواعد ومبادئ قوية لحوكمة الذكاء الاصطناعي.
إن تقديم منظومة قيم أفضل هو عملية مستمرة، ولكنه ركيزة حيوية لإرساء أساس جديد للقوة الأميركية. ولا يعد ذلك الخيار الصائب الذي ينبغي عمله فحسب، وإنما يخدم في الوقت عينه مصالح الولايات المتحدة. فمن شأن مساعدة البلدان الأخرى لتصبح أقوى أن يجعل أميركا هي أيضاً أقوى وأكثر أمناً. فهي بذلك تخلق شركاء جدداً وأصدقاء أفضل. وسوف نستمر في صوغ العرض الإيجابي الذي تقدمه أميركا للعالم. وإنه ضروري للغاية إذا ما أرادت الولايات المتحدة أن تفوز بمنافسة رسم ملامح مستقبل النظام الدولي ليغدو حراً ومنفتحاً ومزدهراً وآمناً.
اختر معاركك
هيمنت على سياسة الدفاع الأميركية، إبان تسعينيات القرن الـ20، أسئلة حول ما إذا كان يجب التدخل في البلدان التي مزقتها الحروب لمنع وقوع فظائع جماعية وآلية ذلك، لكن بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، حولت الولايات المتحدة تركيزها إلى الجماعات الإرهابية. بدا خطر الصراع بين القوى العظمى شبحاً بعيداً، بيد أن ذلك بدأ يتغير مع غزو روسيا جورجيا في العام 2008 وأوكرانيا في العام 2014، فضلاً عن التحديث العسكري الخطر الذي قامت به الصين واستفزازاتها العسكرية المتزايدة في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، لكن أولويات أميركا لم تتأقلم بالسرعة الكافية مع التحديات المتمثلة في ردع عدوان القوى العظمى والرد عليه فور وقوعه.
كان الرئيس بايدن مصمماً على التأقلم، فقد أنهى مشاركة الولايات المتحدة في الحرب في أفغانستان، وهي أطول حرب في التاريخ الأميركي، وحرر الولايات المتحدة من قيود الاحتفاظ بالقوات العسكرية في الأعمال العدائية النشطة لأول مرة منذ عقدين. ومما لا شك فيه أن هذا التحول كان مؤلماً، ولا سيما بالنسبة إلى شعب أفغانستان والقوات الأميركية والموظفين الآخرين الذين خدموا هناك، بيد أنها كانت ضرورية لإعداد الجيش الأميركي لمواجهة التحديات المقبلة، والتي جاء أحدها بسرعة أكبر مما توقعنا، مع الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022. ولو أن الولايات المتحدة كانت ما تزال تقاتل في أفغانستان، فمن المرجح أن تفعل روسيا كل ما في وسعها الآن لمساعدة “طالبان” على إغراق واشنطن في وحل الحرب هناك، ومنعها من تركيز اهتمامها على مساعدة أوكرانيا.
وحتى مع تحول أولوياتنا بعيداً من التدخلات العسكرية الكبرى، فإننا نبقى على أهبة الاستعداد للتعامل مع التهديد الدائم المتمثل في الإرهاب الدولي. نشطنا في أجواء أفغانستان، وعلى الأخص من خلال العملية التي صفت زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، وحيدنا أهدافاً إرهابية أخرى في ساحة المعركة في الصومال وسورية وأماكن أخرى. وسوف نمضي قدماً في القيام بذلك، لكننا سنتجنب أيضاً الحروب الطويلة الأمد التي يمكن أن تقيد القوات الأميركية والتي لا تسمن ولا تغني من جوع في ما يتعلق بالحد من التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة.
وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط بشكل عام، فقد ورث الرئيس منطقة رزحت تحت وطأة شديدة. شددت النسخة الأصلية من هذا المقال، المكتوبة قبل الهجمات الإرهابية التي شنتها “حماس” في إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، على التقدم الذي تم إحرازه في الشرق الأوسط بعد عقدين اتسما بالتدخل العسكري الأميركي الهائل في العراق، وحملة الناتو العسكرية في ليبيا، والحروب الأهلية المتأججة، وأزمات اللاجئين، وظهور دولة الخلافة الإرهابية المعلنة ذاتياً، والثورات والثورات المضادة، وانهيار العلاقات بين البلدان الرئيسة في المنطقة.
ووصفت جهودنا للعودة إلى جادة نهج سياسة أميركية منضبطة تعطي الأولوية لردع العدوان، ونزع فتيل الصراعات، ودمج المنطقة من خلال مشاريع البنى التحتية المشتركة، بما في ذلك بين إسرائيل وجيرانها العرب. كان ثمة تقدم ملموس.
دخلت الحرب في اليمن شهرها الـ18 من الهدنة، فيما هدأت رحى الصراعات الأخرى.
انخرط القادة الإقليميون معاً في بوتقة عمل مشترك بشكل علني. وفي أيلول (سبتمبر)، أعلن الرئيس عن ممر اقتصادي جديد يربط الهند بأوروبا عبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل.
أكدت النسخة الأصلية من هذا المقال هشاشة التقدم وأن التحديات الدائمة ما تزال قائمة، بما في ذلك التوتر بين إسرائيل والفلسطينيين والتهديد الذي تفرضه إيران، كما ألقت هجمات السابع من أكتوبر بظلالها على المشهد الإقليمي برمته، التي ما تزال تداعياتها تتكشف، بما في ذلك خطر حدوث تصعيد إقليمي كبير، لكن النهج المنضبط الذي تبنيناه في الشرق الأوسط يظل جوهر موقفنا وتخطيطنا في إطار تعاملنا مع هذه الأزمة.
كما أظهر الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بالمطلق في إطار حمايتها لمواطنيها ودفاعها عن نفسها ضد الإرهابيين الهمجيين، عندما سافر إلى إسرائيل في زيارة نادرة في زمن الحرب في 18 تشرين الأول (أكتوبر)، وأننا نعمل بشكل وثيق مع الشركاء الإقليميين لتسهيل التوصيل المستدام للمساعدات الإنسانية للمدنيين في قطاع غزة. وقد أوضح الرئيس، مراراً وتكراراً، أن الولايات المتحدة تؤيد حماية حياة المدنيين أثناء النزاع واحترام قوانين الحرب. لا تمثل “حماس”، التي ارتكبت فظائع تذكرنا بأسوأ ويلات “داعش”، الشعب الفلسطيني، ولا تدافع عن حقه في الكرامة وتقرير المصير. وإننا ملتزمون حل الدولتين الذي يضمن ذلك. وفي الواقع، كثيراً ما تضمنت مناقشاتنا مع المملكة العربية السعودية وإسرائيل في شأن التطبيع على الدوام مقترحات مهمة للفلسطينيين. وفي حال الاتفاق على هذا المكون، فإن من شأنه بث الحياة في حل الدولتين وجعله قابلاً للتطبيق، مع اتخاذ خطوات مهمة وملموسة في هذا الاتجاه من قبل جميع الأطراف المعنية.
نتوخى الحذر من خطر تحول الأزمة الحالية إلى صراع إقليمي. وقد أجرينا اتصالات دبلوماسية واسعة النطاق وعززنا تموضع قوتنا العسكرية في المنطقة. ومنذ وصول هذه الإدارة لسدة الحكم، تصرفنا عسكرياً عند الضرورة لحماية الأفراد الأميركيين. ونحن ملتزمون ضمان عدم امتلاك إيران السلاح النووي بالمطلق. وفي حين أنه يجب ألا تكون القوة العسكرية الخيار الأول بالمطلق، إلا أننا نقف على أهبة الاستعداد لاستخدامها عند الضرورة لحماية أفراد الولايات المتحدة ومصالحها في هذه المنطقة المهمة.
نهجنا في أوكرانيا مستدام
لا تغير الأزمة في الشرق الأوسط حقيقة أن الولايات المتحدة في حاجة إلى الاستعداد لعصر جديد من المنافسة الاستراتيجية، ولا سيما من خلال الردع والرد على عدوان القوى العظمى. وعندما علمنا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتأهب لغزو أوكرانيا، واجهنا تحدياً: لم تكن الولايات المتحدة ملتزمة بموجب معاهدة الدفاع عن أوكرانيا، بيد أنه إذا لم يتم الرد على العدوان الروسي، فسوف يندثر بلد ذو سيادة، وسترسل رسالة إلى المستبدين في جميع أنحاء العالم مفادها بأن القوة تصنع الحق. وسعينا إلى تجنب الأزمة من خلال إيصال رسالة واضحة لروسيا مفادها بأن الولايات المتحدة سترد من خلال دعم أوكرانيا وإظهار الاستعداد للانخراط في محادثات حول الأمن الأوروبي، حتى وإن لم تكن روسيا تأخذ القيام بذلك على محمل الجد، كما استخدمنا النشر العلني المتعمد والمصرح به للمعلومات الاستخباراتية لتحذير أوكرانيا، وتعبئة شركاء الولايات المتحدة، وحرمان روسيا من القدرة على خلق ذرائع كاذبة لغزوها.
عندما غزا بوتين أوكرانيا، نفذنا سياسة لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها دون إرسال قوات أميركية إلى ميدان الحرب. أرسلت الولايات المتحدة كميات هائلة من الأسلحة الدفاعية إلى الأوكرانيين وحشدت الحلفاء والشركاء لتحذو حذوها.
ونسقت المهمة اللوجيستية الهائلة لتوصيل تلك المعدات القتالية إلى ساحة المعركة. وقد تم تقسيم هذه المساعدة إلى 47 حزمة مختلفة من المساعدات العسكرية حتى الآن، التي تم تنسيقها للاستجابة لحاجات أوكرانيا مع تطورها على مدى الصراع. وتعاونا بشكل وثيق مع الحكومة الأوكرانية في شأن متطلباتها ورتبنا التفاصيل الفنية واللوجيستية للتأكد من امتلاك قواتها كل ما تحتاج إليه. ورفعنا من وتيرة التعاون الاستخباراتي الأميركي مع أوكرانيا، فضلاً عن جهود التدريب.
وفرضنا عقوبات شاملة على روسيا للحد من قدرتها على شن الحرب.
كما أوضح الرئيس بايدن، بجلاء، أنه إذا هاجمت روسيا أحد حلفاء الناتو، فإن الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من أراضي الحلفاء، عبر دعم ذلك بنشر قوات جديدة.
وأطلقنا عملية مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها لمساعدة أوكرانيا على تشييد جيش قادر على الدفاع عن نفسه براً وبحراً وجواً، وردع أي عدوان مستقبلي.
يعد نهجنا في أوكرانيا مستداماً، على النقيض من أولئك الذين يروجون لخلاف ذلك، ومن شأنه تعزيز قدرة الولايات المتحدة على مواجهة كل الطوارئ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. فالشعب الأميركي يعرف المتنمر عندما يراه. وهم يدركون أنهم إذا سحبوا الدعم الأميركي من أوكرانيا، فإن ذلك لن يقتصر أثره على وضع الأوكرانيين في موقف صعب أثناء دفاعهم عن أنفسهم فحسب، بل سيشكل سابقة رهيبة أيضاً، مما يشجع العدوان في أوروبا وخارجها. والدعم الأميركي لأوكرانيا واسع النطاق وعميق، وسوف يستمر.
المنافسة المقبلة
اتضح أن العالم أصبح أكثر قدرة على المنافسة، وأن التكنولوجيا ستغدو قوة مغيرة لموازين القوى، وأن المشكلات المشتركة ستصبح أكثر حدة بمرور الوقت، لكن كيفية تجلي هذه القوى ليست واضحة على وجه التحديد، فقد فوجئت الولايات المتحدة في الماضي (مع أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962 وغزو العراق للكويت في العام 1990)، ومن المرجح أن تفاجأ في المستقبل، بغض النظر عن مدى جهود الحكومة الحثيثة لتوقع ما هو آت (وقد أصابت وكالات الاستخبارات الأميركية كثيراً، بما في ذلك التحذير الدقيق من الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022). تم تصميم استراتيجيتنا للعمل في مجموعة واسعة من السيناريوهات. ومن خلال الاستثمار في مصادر القوة الداخلية، وتعميق التحالفات والشراكات، وتحقيق النتائج في مواجهة التحديات العالمية، والتحلي بالانضباط لدى ممارسة القوة، ستكون الولايات المتحدة مستعدة لتعزيز رؤيتها لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن، بغض النظر عن المفاجآت التي يحملها المستقبل في جعبته. وقد خلقنا، على حد تعبير وزير الخارجية دين آتشيسون، “مواقف قوة”.
سيكون عصر المنافسة المقبل مختلفاً عن أي شيء عهدناه من قبل، فقد كانت المنافسة الأمنية الأوروبية في القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20 عبارة عن منافسة إقليمية إلى حد كبير بين قوى متوسطة الحجم ومتناظرة، وأفضت في نهاية المطاف إلى كارثة. اندلعت الحرب الباردة التي أعقبت الحرب الأكثر تدميراً في تاريخ البشرية بين قوتين عظميين كانت مستويات الترابط المتبادل بينهما متدنية للغاية. وانتهت تلك المنافسة بشكل حاسم لمصلحة أميركا، بيد أن المنافسة اليوم مختلفة جذرياً، وذلك بأن الولايات المتحدة والصين مترابطتان اقتصادياً.
تغلب الصبغة العالمية على المنافسة حقاً، ولكنها ليست صفرية المحصلة.
فالتحديات المشتركة التي يواجهها الجانبان غير مسبوقة.
كثيراً ما نسأل عن الوضع النهائي للمنافسة الأميركية مع الصين. نتوقع أن تظل الصين لاعباً رئيساً على الساحة العالمية في المستقبل المنظور. إننا نسعى إلى نظام دولي حر ومنفتح ومزدهر وآمن، نظام يحمي مصالح الولايات المتحدة ومصالح أصدقائها ويوفر المنافع العامة العالمية، لكننا لا نتوقع حالة تحول جذرية كتلك التي أسفر عنها انهيار الاتحاد السوفياتي. ستشهد المنافسة مداً وجزراً، إذ ستحقق الولايات المتحدة مكاسب، على غرار الصين التي ستحقق ذلك أيضاً. يجب على واشنطن أن توازن بين الشعور بالإلحاح والصبر، وفهم أن ما يهم هو محصلة أفعالها، وليس الفوز بجولة إخبارية واحدة. وأننا في حاجة إلى شعور مستدام بالثقة في قدرتنا على التفوق على أي بلد، فقد قلبت فترة السنتين ونصف السنة الماضية الافتراضات في شأن المسارات النسبية للولايات المتحدة والصين رأساً على عقب.
ما تزال الولايات المتحدة تتمتع بعلاقات تجارية واستثمارية كبيرة مع الصين، لكن العلاقة الاقتصادية مع الصين معقدة لأن البلد منافس لنا. ولن نقدم أي اعتذار في إطار ردعنا للممارسات التجارية غير المنصفة التي تضر بالعمال الأميركيين. وإننا نشعر بالقلق من أنه يمكن للصين أن تستفيد من انفتاح أميركا لاستخدام التقنيات الأميركية ضد الولايات المتحدة وحلفائها. وعلى هذه الخلفية، نسعى إلى “نزع المخاطر” والتنويع، وليس الفصل. فنحن نريد حماية عدد مستهدف من التقنيات الحساسة من خلال قيود مركزة، وخلق ما سماه البعض “ساحة صغيرة وسياجاً عالياً”. وقد واجهنا انتقادات من مختلف الجهات بأن هذه الخطوات تجارية أو حمائية، لكن هذا غير صحيح، وذلك بأنه تم اتخاذ هذه الخطوات بالشراكة مع الآخرين، وهي تركز على مجموعة ضيقة من التقنيات، وهي خطوات تحتاج الولايات المتحدة إلى اتخاذها في عالم تغلب عليه صبغة النزاعات لحماية أمنها القومي بالتوازي مع دعم الاقتصاد العالمي المترابط.
وفي الوقت عينه، نعمل على توثيق التعاون التكنولوجي مع الشركاء والحلفاء ذوي المشرب الفكري المماثل، بما في ذلك مع الهند ومن خلال مجلس التجارة والتكنولوجيا المشترك بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو منتدى تم إنشاؤه في العام 2021. وسنواصل الاستثمار في قدرات الولايات المتحدة وفي سلاسل التوريد الآمنة والمرنة، كما سنواصل تعزيز أجندة من شأنها ترسيخ حقوق العمال في السعي إلى الحصول على عمل لائق وآمن وصحي في الداخل والخارج لخلق فرص متكافئة للعمال والشركات الأميركية.
ستكون المنافسة محتدمة في بعض الأحيان، ونحن على أهبة الاستعداد لذلك. ونتصدى بقوة للعدوان والإكراه والترهيب ونذود عن قواعد الطرق الأساسية، مثل حرية الملاحة في البحر. ولعل قول وزير الخارجية أنتوني بلينكن في خطابه الذي ألقاه في أيلول (سبتمبر) خير شاهد على ذلك: “إن مصلحة أميركا الذاتية المستنيرة في الحفاظ على هذا النظام وتعزيزه لم تكن في أي وقت مضى أعظم منها اليوم”، كما ندرك أيضاً أن منافسي الولايات المتحدة، ولا سيما الصين، لديهم رؤية مختلفة جذرياً.
لكن يتعين على واشنطن وبكين معرفة كيفية إدارة المنافسة لتهدئة التوترات وإيجاد طريقة للمضي قدماً في مواجهة التحديات المشتركة. ولهذا السبب، تعمل إدارة بايدن على تكثيف الدبلوماسية الأميركية مع الصين، والحفاظ على قنوات الاتصال الحالية وإنشاء قنوات جديدة. استوعب الأميركيون بعض الدروس المستقاة من أزمات العقود الماضية، وبخاصة احتمال الانزلاق إلى رحى الصراع. ينطوي التفاعل الرفيع المستوى والمتكرر على أهمية بالغة لتوضيح التصورات المغلوطة، وتجنب سوء التواصل، وإرسال إشارات لا لبس فيها، وقطع دابر الانحدار الذي قد يؤدي إلى أزمة كبرى، لكن لسوء الحظ، بدت بكين في كثير من الأحيان وكأنها استخلصت دروساً مختلفة حول إدارة التوترات، وخلصت إلى أنه يمكن للحواجز الوقائية إذكاء نار المنافسة على المنوال ذاته الذي تشجع به أحزمة الأمان على القيادة المتهورة (وهو اعتقاد خاطئ. فكما يؤدي استخدام أحزمة الأمان إلى خفض الوفيات الناجمة عن حوادث المرور إلى النصف، فإن الاتصالات وتدابير السلامة الأساسية تقلل من خطر وقوع حوادث جيوسياسية)، ولكن في الآونة الأخيرة، لاحت بوادر علامات مشجعة تشير إلى أن بكين قد تدرك قيمة الاستقرار. وسيكون محك الاختبار الحقيقي هو ما إذا كانت القنوات قادرة على الصمود عندما تتصاعد التوترات حتماً.
علينا أن نتذكر كذلك أنه ليس كل ما يفعله المنافسون يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة، فقد أدى الاتفاق الذي توسطت فيه الصين هذا العام بين إيران والمملكة العربية السعودية جزئياً إلى خفض التوترات بين هذين البلدين، وهو تطور ترغب الولايات المتحدة في رؤيته أيضاً. لم يكن بوسع واشنطن أن تحاول التوسط في هذه الصفقة، نظراً إلى عدم وجود علاقات دبلوماسية أميركية مع إيران، ولا ينبغي لها أن تحاول تقويضها. وإذا ما تناولنا مثالاً آخر، تنخرط الولايات المتحدة والصين في منافسة تكنولوجية سريعة وعالية المخاطر، ولكن يتعين على الجانبين أن يكونا قادرين على العمل معاً في مواجهة الأخطار الناجمة عن الذكاء الاصطناعي. ولا يعد القيام بذلك علامة على التذبذب، بل يعكس تقييماً واضحاً بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشكل تحديات فريدة للبشرية وأن القوى العظمى تتحمل مسؤولية جماعية للتعامل معه.
ومن الطبيعي أن البلدان غير المتحالفة مع الولايات المتحدة أو الصين لن تتعامل مع أي منهما، سعياً إلى الاستفادة من المنافسة في حين تسعى إلى حماية مصالحها الخاصة من أي آثار غير مباشرة. ترى العديد من هذه البلدان نفسها جزءاً من الجنوب العالمي، وهو التجمع الذي يتمتع بمنطقه الخاص ونقده المتميز للغرب والذي يعود تاريخه إلى الحرب الباردة وتأسيس حركة عدم الانحياز. ولكن، خلافاً لما حدث إبان الحرب الباردة، ستتجنب الولايات المتحدة مغريات رؤية العالم من خلال منظور المنافسة الجيوسياسية فقط أو التعامل مع هذه البلدان كميادين للتنافس بالوكالة. وبدلاً من ذلك، ستواصل التعامل معهم بموجب شروطهم الخاصة. وينبغي على واشنطن أن تكون واقعية في توقعاتها لدى التعامل مع هذه البلدان، وأن تحترم سيادتها وحقها في اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها الخاصة، بيد أنه يجب أيضاً رسم حدود واضحة لما ينطوي على القدر الأكبر من الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وهذه هي الطريقة التي سنسعى من خلالها إلى تشكيل العلاقات معهم: بحيث يكون لديهم في المحصلة حوافز للتصرف بطرق تتناغم مع المصالح الأميركية.
وفي غضون العقد المقبل، سينفق المسؤولون الأميركيون وقتاً أطول مما قضوه على مدى السنوات الـ30 الماضية في التحدث مع البلدان التي هم على خلاف معها، غالباً حول قضايا جوهرية. بات العالم أكثر تنافسية، وليس بمقدور الولايات المتحدة أن تتحدث إلا مع أولئك الذين يشاطرونها رؤيتها أو قيمها. وسنواصل العمل على تشكيل المشهد الدبلوماسي الشامل بطرق تعزز المصالح الأميركية والمصالح المشتركة. على سبيل المثال، عندما أعلنت الصين والبرازيل ومجموعة مؤلفة من سبعة بلدان أفريقية أنها ستواصل جهود السلام لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، فإننا لم نرفض هذه المبادرات من حيث المبدأ، وقد دعونا هذه البلدان إلى التحدث مع المسؤولين الأوكرانيين وتقديم ضمانات بأن مقترحاتهم للتسوية ستكون متسقة مع ميثاق الأمم المتحدة.
ستستغرق بعض البذور التي نزرعها الآن، مثل الاستثمارات في التكنولوجيا المتقدمة أو غواصات “أكوس”، سنوات عديدة لتؤتي ثمارها، ولكن هناك أيضاً بعض القضايا التي يمكننا أن نعمل على حلها الآن، أو ما نسميه “الأعمال غير المكتملة”. ويتعين علينا أن نضمن كياناً أوكرانياً ذا سيادة، وديمقراطية، وحرية، فضلاً عن تعزيز السلام والاستقرار في مضيق تايوان. ويتعين علينا أن نعمل على تعزيز التكامل الإقليمي في الشرق الأوسط مع الاستمرار في كبح جماح إيران، ناهيك بوجوب تحديث القاعدة العسكرية والصناعية الدفاعية للولايات المتحدة. وينبغي علينا أن نفي بالتزاماتنا المتعلقة بالبنى التحتية والتنمية والمناخ تجاه الجنوب العالمي.
الأمر متروك لنا
وصلت الولايات المتحدة إلى المرحلة الثالثة من الدور العالمي الذي تولته بعد الحرب العالمية الثانية. في المرحلة الأولى، أرست إدارة ترومان أسس القوة الأميركية لتحقيق هدفين: تعزيز الديمقراطيات والتعاون الديمقراطي واحتواء الاتحاد السوفياتي. وتضمنت هذه الاستراتيجية، التي نفذها الرؤساء اللاحقون، بذل جهد شامل للاستثمار في الصناعة الأميركية، ولا سيما في التقنيات الجديدة، من خمسينيات القرن إلى سبعينياته. وقد بدأ هذا الالتزام بالقوة الوطنية من خلال الاستثمار الصناعي في التلاشي في ثمانينيات القرن الـ20، وباتت الحاجة إليه أقل إلحاحاً بعد الحرب الباردة. وفي المرحلة الثانية سعت الإدارات المتعاقبة، مع غياب منافس ند للولايات المتحدة، لتوسيع النظام القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة فضلاً عن إنشاء أنماط من التعاون في القضايا الحاسمة. حولت هذه الحقبة العالم إلى الأفضل بطرق عدة، فأصبحت العديد من البلدان أكثر حرية وازدهاراً وأماناً، وتم الحد من الفقر العالمي، واستجاب العالم بفعالية للأزمة المالية في العام 2008، بيد أنها فترة شهدت في المقابل تغييراً جيوسياسياً.
تجد الولايات المتحدة نفسها الآن على مشارف الحقبة الثالثة: حقبة تتأقلم فيها مع فترة جديدة من المنافسة في عصر الترابط المتبادل والتحديات العابرة للحدود الوطنية. ولا يعني هذا القطيعة مع الماضي أو التنازل عن المكاسب التي تحققت، وإنما يعني إرساء أسس جديدة للقوة الأميركية. ويتطلب هذا إعادة النظر في الافتراضات الراسخة إذا أردنا أن نترك أميركا أقوى مما وجدناها وأكثر استعداداً لما يحمله المستقبل في جعبته. ولن تحدد نتيجة هذه المرحلة عبر قوى خارجية فقط. وإنما سيتم تحديد ذلك أيضاً، إلى حد كبير، من خلال خيارات الولايات المتحدة الخاصة.