منذ بدء حرب غزة عقب هجوم حماس الدموي، اتخذت الإدارة الأمريكية مواقف صارمة لجهة تقديم مختلف أشكال الدعم لإسرائيل، وفي الوقت نفسه استنفرت دبلوماسيا وسياسيا لمنع وقف هذه الحرب.
وعليه أشهرت سلاح الفيتو في مجلس الأمن ضد مشاريع القرارات التي قدمت بهذا الخصوص، كان أبرزها مشروع القرار الذي تقدمت به بعثة دولة الإمارات في الأمم المتحدة، والذي حظي بموافقة 13 عضوا وامتناع عضو واحد (بريطانيا) بينما استخدمت أمريكا حق الفيتو.
حجج واشنطن لرفض وقف الحرب تنحصر في أمرين؛ الأول، أن وقف إطلاق النار سيعطي فرصة لحماس في إعادة تنظيم صفوفها، وربما تنفيذ هجمات جديدة على إسرائيل في المستقبل. والثاني، عدم عرقلة قدرة إسرائيل على تحقيق النصر على حماس، وحقها في الدفاع عن نفسها.
لكن بغض النظر عن الحجج الأمريكية هذه، شكل الموقف الأمريكي هذا غطاء لإسرائيل في الذهاب بعيدا في حربها على غزة، إلى درجة أن هذه الحرب تجاوزت كل الحدود، مخلفة دمارا هائلا في كل الاتجاهات، فضلا عن عشرات آلاف الضحايا بين قتيل وجريح ومهجر، وسط مخاوف من انتشار الأوبئة بسبب الدمار الهائل، وغياب مقومات الحياة والتعافي.
إن الدعم الأمريكي الكبير لإسرائيل لم يمنع الاختلاف بينهما على العديد في القضايا، ففي الوقت الذي تتحدث فيه تل أبيب عن حرب طويلة مفتوحة، ترفض واشنطن ذلك دون أن تتحدث صراحة عن موعد محدد لوقف هذه الحرب.
وفي الوقت الذي يتحدث الجانب الإسرائيلي عن قطاع غزة ما بعد حماس، ويطرح سيناريوهات أقرب إلى إعادة احتلال غزة وتهجير أهلها إلى سيناء المصرية، يرفض الجانب الأمريكي ذلك، لكنه لا يتحدث عن طبيعة من سيحكم غزة في المرحلة المقبلة، إلى درجة أن مستقبل غزة أصبح موضوع خلاف شائك، لاسيما أن الدعم الأمريكي المفتوح لإسرائيل ينسف عمليا حل الدولتين الذي يؤكد المسؤولون الأمريكيون تمسكهم به دون أي خطوة عملية لتحقيقه، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الحديث الأمريكي عن حل الدولتين يفتقر إلى المصداقية، وليس أكثر من خدعة سياسية، هدفها إعطاء المزيد من الوقت لإسرائيل لتحقيق أهدافها في غزة.
الثابت أنه كلما طال أمد الحرب أصبح السلام صعبا، والأخطر أنه كلما طال أمد هذه الحرب باتت مخاطرها أكبر على المنطقة برمتها، إذ إن ذلك يفتح المجال أمام توسيع الحرب، وتورط مزيد من الأطراف والقوى فيها، فالضفة الغربية تغلي على وقع الاقتحامات الإسرائيلية لمدنها وبلداتها، وجبهة الشمال مع حزب الله تكاد تنفجر، وجبهة المواجهة بين أذرع الإيرانية في العراق واليمن وسوريا تتسع على وقع هجمات هذه الأذرع على القواعد والمقار الأمريكية في المنطقة، وسط مخاطر على المضائق التجارية والممرات البحرية التي تربط بين دول المنطقة والعالم، في ظل إصرار مليشيات الحوثي على الانخراط في هذه الحرب.
في الواقع، مع التأكيد على المخاطر الكبيرة بسبب الرفض الأمريكي لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، يتعلق بما وراء الحديث الأمريكي عن حل الدولتين، وعلى ماذا تراهن إدارة بايدن في هذا الحديث؟ ثمة حديث أمريكي عن سلام شامل يعقب انتصار إسرائيل على حماس في سيناريو أقرب إلى ما حصل بعد القصف الأمريكي لهيروشيما اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، لكن على الأرض لا شيء يوحي بنجاح مثل السيناريو، فالحدث مختلف، والظروف مختلفة، والأسباب مختلفة، والقضية لم تعد تتعلق بحماس وسياساتها وارتباطاتها وأيديولوجيتها، بل هي قضية الشعب الفلسطيني الذي يصر الجانب الإسرائيلي على بناء دولة بهوية دينية على حساب حقوقه الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.
ومن دون شك، فإن الإدارة الأمريكية في إصرارها على عدم وقف هذه الحرب تضع مصداقيتها على المحك، لا سيما في ظل المظاهرات الواسعة المطالبة بوقفها، واتساع دائرة الرفض لها في أوساط الجمهوريين والديمقراطيين الذين باتوا يتساءلون عن قدرة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على الاستمرار في هذه السياسة إلى ما لا نهاية، وهي سياسة قد تقضي على ما تبقى من شعبية بايدن لصالح سلفه دونالد ترامب مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
الرفض الأمريكي لوقف حرب غزة انطلاقا من علاقتها التاريخية العضوية بإسرائيل، لا يضع مصداقية أمريكا وعلاقاتها بالمنطقة على المحك فحسب، وإنما يضع المنطقة أمام سيناريوهات غامضة مفتوحة، جميعها تحمل ملامح الخراب والجحيم.