لن يؤدي السلام الخاطئ الذي لا يعالج القضية الأوسع نطاقاً المتمثلة في عنف “حماس” إلا إلى تأجيل الحرب إلى موعد لاحق.
بعد مضي شهرين على الحرب في غزة، تواصل واشنطن دعم الحملة الإسرائيلية ضد “حماس”. وفي حين تعمل إدارة بايدن على تمديد مدة الهدنة المؤقتة لتبادل المخطوفين/الأسرى، فإنها لا تزال تعارض وقف إطلاق النار الدائم، والذي وفقاً لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن “سيترك ببساطة “حماس” في مكانها، قادرة على إعادة تجميع صفوفها”. ومع ذلك، من غير الواضح كم ستبقى الإدارة الأمريكية على موقفها الحالي بعد وفاة أكثر من 17 ألف فلسطيني، وتدهور الوضع الإنساني في غزة، وانتشار الاحتجاجات، وتزايد استهداف القوات الأمريكية في المنطقة من قبل الميليشيات الوكيلة لإيران. وإذا كان الماضي دليلاً على ما سيأتي، فقد بدأ العدّ التنازلي.
وفي هذا الإطار، يقول مسؤولون إسرائيليون إن تحقيق أهدافهم في غزة سيستغرق أشهراً، وهي أجندة طموحة تتضمن إطلاق سراح الرهائن، وتدهور البنية التحتية العسكرية لـ “حماس”، وإنهاء حكمها على القطاع. وفي خضم الضغوط الدولية المتزايدة لإنهاء الحرب، تشجع واشنطن على إيقاف العمليات القتالية لبعض الوقت، ليس فقط للسماح بعودة الرهائن الإسرائيليين بل لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية الحيوية إلى سكان غزة أيضاً. والاعتقاد هو أن زيادة المساعدات ستحول دون وقوع كارثة إنسانية وتمنح إسرائيل المزيد من الوقت لمواصلة حملتها في الجنوب. وفي الوقت نفسه، تحذر الإدارة الأمريكية إسرائيل من أنه إذا استمر الارتفاع في عدد الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، فقد يؤدي ذلك إلى تعزيز شعبية “حماس” وحلول “الهزيمة الاستراتيجية محلّ النصر التكتيكي”، على حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن.
وتتعرض إدارة بايدن للانتقادات في الداخل والخارج بسبب موقفها، ومع ذلك، ففي أعقاب هجوم “حماس” الوحشي في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تدرك واشنطن بأنه من غير الممكن “العودة إلى الوضع الراهن”، على حد تعبير الوزير بلينكن. وفي المرحلة المقبلة، سيتمثل التحدي الذي سيواجه واشنطن في مواصلة دعمها للعمليات العسكرية الإسرائيلية مع منع نشوب حرب إقليمية، وتجنب العزلة الدبلوماسية، وزيادة التركيز على الشراكات الإقليمية. إلا أن ذلك ليس بالأمر السهل. ففي أوائل شهر تشرين الثاني/نوفمبر، دعت فرنسا، التي دعمت في البداية الحملة الإسرائيلية، إلى وقف إطلاق النار. وفي 8 كانون الأول/ديسمبر، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي صوّتت ضد قرار وقف إطلاق النارفي مجلس الأمن الدولي، مع امتناع المملكة المتحدة عن التصويت.
ومع أن الوضع الحالي في غزة غير مسبوق، إلا أن واشنطن تواجه تحديات دبلوماسية شبيهة بأخرى سبق لها أن واجهتها، فموقف الولايات المتحدة في الأزمة الحالية يشبه من نواحٍ عديدة موقفها الذي اتخذته خلال حرب عام 2006 بين إسرائيل ووكيل آخر مدعوم من إيران، هو “حزب الله” اللبناني. ففي تموز/يوليو من ذلك العام، وبعد وقت قصير من اختطاف “حماس” لجندي إسرائيلي إلى غزة، شنّ “حزب الله” غارة لا مبرر لها عبر الحدود أسفرت عن مقتل عدد من جنود الجيش الإسرائيلي وأسر اثنين آخرين، مما أشعل فتيل الحرب.
وعلى مدار الصراع الذي دام أربعة وثلاثين يوماً، أطلق “حزب الله” أكثر من 4 آلاف صاروخ على إسرائيل، بينما أسقطت إسرائيل ما يقدر بنحو 7000 قنبلة وصاروخ على لبنان. وبلغت الحرب ذروتها في الأيام الأخيرة بحصول غزو بري إسرائيلي واسع النطاق لجنوب لبنان. وقد أدى القتال الذي دام شهراً بشكل عام إلى مقتل حوالي 160 إسرائيلياً و1200 لبناني ونزوح نصف مليون إسرائيلي ومليون لبناني.
وكما هو الحال في الأزمة الحالية في غزة، بدأت النداءات الدولية لوقف إطلاق النار مباشرة بعد بدء الحرب. فبعد أيام من بدء القتال، عارضت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، كونداليزا رايس، الإجماع الدولي. وقالت: “إن وقف إطلاق النار سيكون وعداً كاذباً إذا ما أعادنا ببساطة إلى الوضع الراهن”.
ومع ذلك، مع تقدم الحرب وتزايد الخسائر في لبنان، تصاعدت الضغوط الدبلوماسية. وكما روت رايس في مذكراتها التي صدرت في عام 2011 بعنوان “أسمى مراتب الشرف“، كان “المجتمع الدولي ينتقل من مرحلة اليأس إزاء الخسائر الإنسانية إلى مرحلة متوقعة تتمثل في إلقاء اللوم على إسرائيل”. وبعد أسابيع من الحرب، ذكرت رايس أنها اجتمعت مع نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك عمير بيريتس وأخبرته أن “الوقت ينفد” وأنها “لا تستطيع الصمود” والاستمرار في معارضة وقف إطلاق النار لفترة أطول.
وفي حين سعت رايس إلى إنهاء الحرب، إلّا أنها أدركت أيضاً أنه في غياب “الشروط الصحيحة لوقف إطلاق النار فإن ذلك سيمنح [حزب الله] النصر لعدوانه”. وفي النهاية، تم إدراج الشروط التي ضمنتها إدارة بوش لوقف إطلاق النار في “قرار مجلس الأمن رقم 1701” الذي وسّع رقعة تواجد “قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”) وولايتها (سبعة أضعاف تقريباً) – و”الونيفيل” هي قوات حفظ السلام المتمركزة على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية منذ عام 1978 – وكلف “المجلس” القوات بالقيام بدوريات في جنوب لبنان وحِرصها على عدم تمكن “حزب الله” من التسلح مجدداً. لقد كان ذلك، وفقاً لرايس، “حلاً غير كامل”، ولكنه ترتيب من شأنه أن يؤدي إلى استقرار الحدود. وكتبت أن “اليونيفيل” كانت “قوة قادرة على حفظ السلام”.
لقد كانت لإدارة بوش نية حسنة فيما قامت به، لكن ثقة رايس في قوات “اليونيفيل” كانت في غير محلها. وأثبتت قوات “اليونيفيل” ضعفها. فقد استغرق الأمر خمس سنوات، لكي يعيد “حزب الله” بناء ترسانته ويقوم منذ ذلك الحين بتطويرها بشكل كبير. وبذلك لم يعُد التهديد على طول الحدود الشمالية لإسرائيل إلى الوضع الذي كان عليه في عام 2006، بل أصبح أسوأ بكثير حالياً.
ويقيناً، أن أداء إسرائيل كان ضعيفاً خلال حملتها ضد “حزب الله” في عام 2006. فلم يقتصر الأمر على عدم استعداد جيش الدفاع الإسرائيلي للصراع فحسب – إذ كان يفتقر إلى ما يكفي من المعلومات الاستخبارية والأهداف والتدريب لتلك المهمة – بل أن الإسرائيليين، كما أشارت رايس في كتابها، كانوا “غير مدركين تماماً لأهدافهم الاستراتيجية” أيضاً. ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من مواصلة دعم إدارة بوش للدولة اليهودية، إلا أنها خلصت إلى أن القتال المستمر لن يُحسّن أمن إسرائيل وأوقفت الحرب.
وكما كانت الحال في الأسابيع الأولى من حرب عام 2006، فقد بذلت واشنطن حتى الآن جهوداً استثنائية لإعطاء إسرائيل الوقت الكافي لإضعاف قدرات “حماس” وتدمير أصولها العسكرية في شمال غزة. ومع ذلك، ليس من المؤكد أن إدارة بايدن ستستمر في معارضة وقف إطلاق النار – مما يسمح لإسرائيل بالانتقال إلى المرحلة التالية الأقل كثافة من العمليات في جنوب القطاع – خاصة إذا تم تمديد هدنة تبادل الرهائن والأسرى. فكلما طالت الحرب، كلما ازداد قلق الإدارة الأمريكية إزاء الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين، والوضع الإنساني في غزة، واحتمال اتساع نطاق الصراع. كما ستلوح في الأفق مخاوف بشأن تأثير تآكل رأس المال الدبلوماسي على بنود أخرى ذات أولوية على جدول أعمال الولايات المتحدة مثل أوكرانيا والتداعيات المحتملة على الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن إدارة بايدن ستواصل دعمها للعمليات الإسرائيلية في غزة. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أدركت واشنطن بالفطرة بأن “حماس” أصبحتتشكل مشكلة استراتيجية بالنسبة لإسرائيل. وما لم تتعرض “حماس” لضربة حاسمة في هذه الحرب، فسوف تخرج “بانتصار إلهي” – على غرار “حزب الله” في عام 2006 – وبالتالي سوف تعود غزة إلى ما كانت عليه في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على موقف الردع الإسرائيلي وأزمة ثقة غير مستدامة في إسرائيل بسبب عجز الدولة عن الدفاع عن شعبها.
إلا أن الدعم الأمريكي للحملة لن يستمر إلى ما نهاية. ففي الواقع، قد يتم في هذه المرحلة قياس صبر الإدارة الأمريكية المستمر بأسابيع وليس بأشهر. وبغض النظر عن الوقت الذي تستسلم فيه إدارة بايدن أخيراً للضغوط من أجل وقف إطلاق النار، فينبغي لها أن تتعلم الدرس من عام 2006، فقد أنهى قرار “مجلس الأمن رقم 1701″ الحرب في لبنان لكنه كفل حتماً اندلاع صراع آخر أكثر تدميراً بين إسرائيل و”حزب الله” في المستقبل. ولذلك ما يجب استخلاصه من عام 2006 هو أن وقف إطلاق النار الخاطئ ـ الهدنة التي تُبقي “حماس” في مكانها ـ لن يؤدي إلا إلى تأجيل الجولة التالية من إراقة الدماء.
ديفيد شينكر
معهد واشنطن