تعتبر الانتخابات واحدة من أبرز المسلمات السياسية التي التزم النظام الإيراني بعد انتصار الثورة وإقامة “الجمهورية الإسلامية” بتطبيقها والحفاظ على آلياتها وصورتها الديمقراطية على مدى العقود الأربعة الماضية من عمره.
وانطلاقاً من كون العملية الانتخابية وصندوق الاقتراع أحد أبرز وجوه جمهورية النظام، وبغض النظر عن الآليات والإجراءات والأهداف التي ترافق تطبيق هذا المبدأ الديمقراطي الذي من المفترض به التأسيس لعملية تداول السلطة وانتقالها، إلا أن الانتخابات وما فيها من إشكالات وأسئلة تحتل أهمية كبيرة لدى السلطة في سياق ما تعتبره تجديداً للاستفتاء الذي تريده على شرعية النظام وتمثيله الشعبي وإرادة الإيرانيين، وعليه فإن الانتخابات المرتقبة لا تخرج عن هذا السياق أو الهدف، بخاصة في البعد المتعلق بالاستفتاء على هذه الشعبية والتمثيل.
ومنذ 10 أشهر مع إعلان مجلس صيانة الدستور مواعيد إجراء هذه الانتخابات، وما تتطلبه من خطوات تحضيرية سابقة وآليات جديدة في دراسة أهلية المرشحين على مرحلتين موزعة بين وزارة الداخلية ثم لجنة الأهلية في مجلس صيانة الدستور، لم يترك المرشد الأعلى فرصة أو مناسبة أو لقاء شعبياً أو رسمياً مع إدارات الدولة والقوات العسكرية إلا واستغلها للتأكيد على ضرورة إجراء انتخابات “حماسية” وبأعلى مستوى من المشاركة الشعبية، باعتبارها أحد مظاهر ديمقراطية النظام والورقة التي تضفي الشرعية عليه، ومن عوامل القوة في مواجهة الضغوط والمخططات الدولية والخارجية التي تستهدف النظام واستقراره.
وتجمع مراكز القرار في النظام أن الانتخابات المقبلة تعتبر مختلفة عما سبقتها من انتخابات، سواء رئاسية أو برلمانية، أولاً لأنها تأتي بعد أخطر أزمة واجهها النظام نتيجة الحراك الاعتراضي الذي شهدته إيران إثر مقتل الفتاة مهسا أميني، وما كشفت عنه من انقسام عمودي بين النظام وغالبية الشعب الإيراني على المستوى الثقافي والهوية الدينية للمجتمع والنظام، وأن إيلاء هذه الانتخابات اهتماماً خاصاً يصب في سياق إعادة ترميم الثقة بالمنظومة وقدرتها على مواجهة الأخطار التي تواجهها، ومقاومة أية محاولات للتغيير السياسي، سواء كان مصدرها شعبياً أو من جهات منظمة في الداخل والخارج على حد سواء.
وإذا ما كانت هذه المنظومة استطاعت التعامل مع الحراك الاعتراضي ولم تجد حرجاً في استخدام أعلى درجات العنف، وتصنيف المطالب التي رفعها المتظاهرون في إطار مؤامرة خارجية تقودها أجهزة استخبارات دولية وإقليمية، إلا أن التحدي المستمر والأكثر إلحاحاً والذي لا يبدو أن هذه المنظومة قادرة على تقديم حلول له، هو الجانب المعيشي والحياتي للمواطن الإيراني نتيجة سياسات اقتصادية فشلت في معالجة الأزمات المتراكمة، وما أدت إليه من تدمير للطبقة الوسطى وزادت من مستويات الفقر بين عامة الإيرانيين، إضافة إلى الآثار السلبية لسياسات النظام الخارجية بخاصة في أزمة المفاوضات حول البرنامج النووي والتي أدت إلى إبقاء إيران والإيرانيين في دائرة العقوبات الأميركية والدولية.
المطالب التي رفعها حراك مهسا أميني أو حراك “المرأة والحياة والحرية”، بخاصة في موضوع إلزامية الحجاب والحريات الشخصية والاجتماعية، والذهاب إلى خيار البحث عن حلول تضمن له إعادة فرض إرادته ورؤيته التي تنسجم مع طبيعته الأيديولوجية، وهو خيار يبدو من خلال السلوكات الشعبية التي يشهدها الشارع الإيراني أنه بات أكثر تعقيداً وصعوبة مما قد يدفعه للتعايش مع الأمر الواقع والتعامل البراغماتي مع ظاهرة نزع الحجاب وتأجيل التشدد في إعادة فرضه، لتمرير الانتخابات وما يمكن أن يحصل عليه من شرعية شعبية أقلوية، من دون أن يكون مجبراً على أي تنازل أو إسقاط الشعارات الأيديولوجية أو التلويح بإمكان فرضها بالقوة، بخاصة أن كل الإجراءات التي يقوم بها في هذا الإطار توحي إلى أنه غير قادر على الاعتراف بتراجع قدرته على فرض سياساته الاجتماعية، وأن التخبط الذي يعيشه في جهود التوصل إلى صيغة تسوية لإنتاج قانون جديد للحجاب يسير على حافة الخوف من استثارة الشارع والثمن الأيديولوجي إذا ما أجبر على الاعتراف بالهزيمة أمام الشعب.
وعلى رغم إدراكه أن أية خطوة باتجاه تنفيس الاحتقان الشعبي إن كان من خلال التعامل المختلف مع أزمته مع الحجاب أو بذل مزيد من الجهود لترميم سياساته الاقتصادية قد تساعد على تحريك الشارع ودفعه إلى التخلي عن قرار مقاطعة الانتخابات أو العزوف عن المشاركة، إلا أن منظومة السلطة تنظر إلى أي تنازل بمثابة تراجع في قدرتها على الإمساك بالأمور، لذلك ترى وتعتقد بضرورة الإبقاء على الأمور على حالها، ولا سيما وأن هناك قوى سياسية تترصد أي تنازل للدفع باتجاه فرض مزيد من التنازلات على مستويات أخرى، وتحديداً في موضوع تخلي هذه المنظومة عن سياسة إقصاء الآخرين المختلفين أو المعارضين، وتخفيف القيود أمام مشاركة مرشحين لا ينتمون إلى تيار السلطة والنظام.
ومع إدراك النظام أهمية ودور التعددية السياسية في الانتخابات، ودورها وأثرها في رفع نسبة المشاركة في الاقتراع التي طالما شكلت ورقة استخدمها لتأكيد شرعيته التمثيلية، إلا أن هذه التعددية في مآلاتها قد تعيده للمربع الأول وتنسف الجهود التي بذلها خلال عقود من أجل تثبيت سياسة تصفية السلطة من المعارضين وإخراجهم من الحياة السياسية أو مواقع القرار، وهو ما لا يرغب فيه بعد أن استطاع هندسة العملية السياسية بكل تمظهراتها من أجل الوصول إلى الهدف الذي يسعى إليه.
ومن هنا فإن نظرة النظام إلى الانتخابات المقبلة وحجم المشاركة الشعبية هي نظرة تعمل لمواجهة أي إمكان لإخراج الأمور والأوضاع عما سبق أن رسمه وخطط له وقرره، وبالتالي فإن المطلوب من هذه الانتخابات لا يخرج عن دورها في تأكيد التزام النظام بالآليات الديمقراطية لإعادة إنتاج نفسه بالطرق والأساليب التي تتفق وتخدم هذا الهدف، أي أن الأولوية هي للنظام واستمراره، بغض النظر عما تريده القوى والأحزاب المختلفة أو المعارضة من تعددية سياسية، أو غالبية الشعب الإيراني ومطالبه الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية.