يستمر الجيل الأكبر سناً في تشككه حول ما يمكن أن تحققه الانتفاضة، لكن الحملات القمعية الإسرائيلية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، لا يزال بإمكانها إشعال حماس الشباب الفلسطينيين وتقويض التعاون الأمني “للسلطة الفلسطينية”.
في الوقت الذي تركز فيه القوات العسكرية الإسرائيلية على شن حرب ضد “حماس” في جنوب البلاد وردع “حزب الله” في شمالها، تشعر إسرائيل بالارتياح لأن الضفة الغربية لم تتطور إلى ساحة معركة واسعة النطاق. ولأسباب متعددة، لم تلقَ دعوات “حماس” لفتح جبهة فلسطينية ثانية آذاناً صاغية إلى حد كبير حتى الآن. لكن القوات الإسرائيلية لا تزال منخرطة في عمليات يومية لقمع العنف في الضفة الغربية، في حين يستمر عدد القتلى الفلسطينيين في الارتفاع، مما يخلق وضعاً هشاً سيتطلب من المسؤولين الإسرائيليين المراقبة عن كثب للتطورات الأمنية المحلية وللاستمرارية السياسية “للسلطة الفلسطينية”.
آخر الأرقام
وفقاً لبيانات “جهاز الأمن العام الإسرائيلي” (“الشاباك”)، تم تنفيذ 128 هجوماً إرهابياً كبيراً (أي أعمال عنف أدت إلى سقوط ضحايا إسرائيليين) في (أو في بعض الحالات انطلاقاً من) الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر – 101 في الجزء الشمالي من أراضي الضفة الغربية و27 في الجزء الجنوبي منها. وكانت الغالبية العظمى من هذه الحوادث عبارة عن عمليات إطلاق نار (112)، تلتها عمليات طعن (6)، وهجمات دهس (4)، وانفجارات (4)، وإطلاق صواريخ (2).
وإلى جانب هذه الهجمات، سُجلت حالات وقوع قتال مسلح بين “جيش الدفاع الإسرائيلي” ونشطاء من المنظمات الإرهابية القائمة (مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي في فلسطين”)، وأفراد ليس لهم انتماء تنظيمي ولكنهم شكلوا كتائب مسلحة في مجتمعاتهم قبل الحرب الحالية أو خلالها. وتم إنشاء هذه الجماعات الأخيرة، والتي يتواجد معظمها في شمال الضفة الغربية، بشكل أساسي لمنع إسرائيل من العمل ضد الخلايا الإرهابية. وعلى الرغم من أنهم ليسوا أفراد “حماس” أنفسهم، إلا أنهم يتمتعون بشعبية واسعة بين شباب الضفة الغربية ويعتمدون على توجيه عناصر “حماس” ودعمها خارج المنطقة لكي يحصلوا على التمويل والأسلحة والمعرفة التقنية.
وعلى الرغم من العنف المستمر، تكشف الأرقام عن انخفاض كبير في الهجمات الإرهابية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية مقارنةً بالارتفاع الكبير الذي شوهد في الأسابيع الثلاثة الأولى بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، والذي كان ثلاثة أضعاف المتوسط المسجل خلال الفترة نفسها من عام 2022. فالعمليات اليومية لـ “جيش الدفاع الإسرائيلي” في الضفة الغربية لها تأثير على تواتر هذه الحوادث وكثافتها – وفي الواقع، أن مقتل كبار الإرهابيين، والاستيلاء على مخابئ الأسلحة، وإدخال أنماط قتالية جديدة (على سبيل المثال، إطلاق النار الجوي)، والاعتقالات الواسعة النطاق، جميعها عوامل تُظهر أن إسرائيل “خلعت القفازات” بعد تشرين الأول/أكتوبر. وتشير بيانات “الشاباك” إلى أنه تم اعتقال حوالي 2150 فلسطينياً في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهو معدل لم يسبق له مثيل منذ الانتفاضة الثانية (2000-2004).
وفيما يتعلق بالإصابات، أفاد “الشاباك” أن 270 فلسطينياً من الضفة الغربية لقوا حتفهم في حوادث أمنية خلال الحرب، مقارنةً بـ 182 حتى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر. ويشمل هؤلاء 123 فلسطينياً قتلوا أثناء اشتباكات مع وحدات الجيش الإسرائيلي، و74 قتلوا أثناء مشاركتهم في أعمال شغب عنيفة، و38 قتلوا خلال مداهمات لمكافحة الإرهاب، و28 قتلوا عرضاً، و7 لقوا حتفهم خلال اشتباكات مع مدنيين يهود الذين هم عادة مستوطنين متطرفين.
ويبدو أن فلسطينيي الضفة الغربية يدركون التغيّر في السياسة الإسرائيلية، ولا شك أنهم يشعرون بالإحباط بسبب الفخ الذي وجدوا أنفسهم فيه. فالخسائر البشرية في أحيائهم وصور الدمار الهائل في غزة تعزز الرواية المحلية القائلة بأن حياة الفلسطينيين “رخيصة” في نظرإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، ولّدت الإجراءات الأمنية الوقائية المتخذة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر – ومن بينها سياسة نقاط التفتيش الصارمة والتوقف التام للتصاريح التي كانت تُمنح لـ 160 ألف فلسطيني كانوا يعملون سابقاً في مستوطنات الضفة الغربية أو إسرائيل – شعوراً بـ “العقاب الجماعي”. وتؤدي أعمال العنف والإرهاب التي ترتكبها العناصر اليهودية المتطرفة إلى تفاقم هذه المشاعر. فوفقاً لـ “تقرير للأمم المتحدة” صدر في 10 كانون الأول/ديسمبر، ارتكب هؤلاء الأفراد حوالي 300 حالة من الأذى الجسدي وألحقوا أضرار في الممتلكات منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وإجمالاً، تم تهجير ما لا يقل عن 143 أسرة فلسطينية يبلغ عدد أفرادها 1026 شخصاً بسبب عنف المستوطنين أو القيود المفروضة على وصولهم (إلى بعض المناطق).
“حماس” مقابل “السلطة الفلسطينية”
انطلاقاً من هذه الخلفية، تحاول “حماس” حشد سكان الضفة الغربية – وخاصة جيل الشباب – لفتح جبهة أخرى ضد إسرائيل. وتَعتبر “حماس” أن الشباب هم بمثابة أرض خصبة للاستغلال كونهم أكثر عرضة للتماهي مع المتشددين المحليين وإلقاء اللوم على “السلطة الفلسطينية” لأنها سمحت لإسرائيل بتوسيع أنشطتها العسكرية في الضفة الغربية. وبالتالي، تؤكد تصريحات كبار مسؤولي “حماس” ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي على العلاقة الاستراتيجية بين حرب غزة والتقدم في الأجندة القومية والدينية الفلسطينية برمتها – ولا يشمل ذلك تحرير السجناء فحسب، بل أيضاً إنهاء الاحتلال بالكامل واللعب على الخوف من أن “المسجد الأقصى” في القدس في خطر إلى حد ما.
وكانت “السلطة الفلسطينية” حازمة بشكل متزايد أيضاً. فقبل اندلاع الحرب وخلال الأيام الأولى من القتال، كان الكثيرون في الساحة الدولية يعتبرون أن “السلطة الفلسطينية” غير مهمة، إلا أنها سرعان ما أصبحت العنصر الأساسي في الكثير من عمليات التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب. إلّا أن قدرتها على الاضطلاع بهذا الدور ستعتمد على قدرتها على معالجة التوترات والتناقضات المختلفة.
ويتمثل مصدر القلق الرئيسي للسلطة الفلسطينية بصورتها السلبية في عيون الفلسطينيين المحليين، إذ يرفضها معظمهم باعتبارها عميلة لإسرائيل، ومن المرجح بشكل متزايد أن يدعموا خصمها اللدود “حماس”. فوفقاً لاستطلاع للرأي أجراه “مركز العالم العربي للبحوث والتنمية” (“أوراد”) مؤخراً في رام الله، يؤيد 83 في المائة من المستطلعين في الضفة الغربية هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ويعتقد 88% أن الحركة تلعب دوراً إيجابياً. كما تؤيد الأغلبية الجماعات المختلفة التي تنفذ هجمات إرهابية محلية، من بينها “كتائب عز الدين القسام” التابعة لـ “حماس” (95%)، و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني” (93%)، و”كتائب شهداء الأقصى” (87%). وفي المقابل، لا توافق الأغلبية على الدور الذي تلعبه كل من “السلطة الفلسطينية” و”فتح” (85% و70% على التوالي)، بينما يدرك 57% أن الحرب الحالية موجهة ضد الفلسطينيين كافة. وقد بحثت استطلاعات أخرى أجراها باحثون في معهد واشنطن في الأسباب الدقيقة وراء وجود هذه المشاعر – ولماذا يمكن أن تتزايد وتتلاشى بسرعة مع الظروف السياسية والأمنية المتغيرة.
وفي ضوء هذه الآراء، حرص رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس وكبار شخصيات “فتح” على إدانة إسرائيل علناً ودعوة المجتمع الدولي إلى حماية الفلسطينيين. على سبيل المثال، أعلن عباس في خطاب ألقاه في 29 تشرين الثاني/نوفمبر أن العالم يجب ألا يقف مكتوف الأيدي “في وقت يتعرض فيه شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة لتهديد وجودي واستهداف متعمد ومنهجي للمدنيين”، مجادلاً بأن الطريقة الوحيدة للحفاظ على الاستقرار والسلام الإقليمي هي إنهاء الاحتلال والوفاء بالحقوق الفلسطينية. ومع ذلك، وفي ظل هذا الدعم الضمني للجماعات التي تعارض بنشاط الاحتلال الإسرائيلي، يأمل العديد من مسؤولي “السلطة الفلسطينية” بصورة غير علنية أن ينجح الجيش الإسرائيلي في سحق “حماس” وقتل قادتها – وهو السيناريو الوحيد الذي ستتمكن فيه “السلطة الفلسطينية” من العودة إلى غزة.
ولتسهيل تحقيق هذا الهدف، لعبت “السلطة الفلسطينية” في الأسابيع الأخيرة دوراً أمنياً حيوياً بشكل متزايد في جميع أنحاء الضفة الغربية. فقواتها تعمل كعامل تقييد، حيث تمنع الجمهور من الخروج لمواجهة القوات الإسرائيلية خلال عمليات مكافحة الإرهاب التي يقوم بها “الجيش الإسرائيلي”. وتُبرر “السلطة الفلسطينية” هذا النهج بقولها للجمهور بأنها تحميهم من إسرائيل “المستعدة لإطلاق النار”.
وقد يتعرض هذا التعاون الأمني للخطر بسبب الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تواجهها الضفة الغربية. فلا تزال “السلطة الفلسطينية”ترفض قبول تحويلات عائدات الضرائب الشهرية المستحقة لها لأن المسؤولين الإسرائيليين يصرون على خصم الجزء الذي يُرسل عادةً إلى غزة، حيث لا يزال الآلاف من موظفي “السلطة الفلسطينية” يتلقون رواتبهم بعد ستة عشر عاماً من انقلاب “حماس”. وقد أدت هذه العائدات من الضرائب المجمدة – إلى جانب خسارة 370 مليون دولار يتم ضخها عادة إلى اقتصاد الضفة الغربية شهرياً من قبل الفلسطينيين العاملين في إسرائيل والمستوطنات – إلى ترك الاقتصاد المحلي في حالة من الفوضى. وإذا استمر الوضع على هذا النحو، فلن تكون “السلطة الفلسطينية” قادرة على دفع رواتب أفرادها الأمنيين البالغ عددهم 30 ألفاً، والذين لن يكون لديهم بعد ذلك حافز كبير لمنع النشاط الإرهابي ضد إسرائيل.
الخاتمة
إن أفضل تفسير للسلبية النسبية لدى معظم فلسطينيي الضفة الغربية هو التفسير ذاته الذي تم تقديمه في وقت مبكر من الحرب، وبالتحديد في الذكرى المؤلمة للانتفاضة الثانية، عندما دفعوا ثمناً باهظاً لكنهم فشلوا في تحقيق إنجازات سياسية مهمة بعد أربع سنوات من العنف. وفي هذا الصدد، فإن سلوك إسرائيل الأخير في الضفة الغربية يعكس الفترة الصعبة التي مرت بها البلاد قبل عقدين من الزمن عندما ردت على العنف الجماعي باعتقالات واسعة النطاق، مما أدى إلى وقوع خسائر فادحة في صفوف الفلسطينيين.
ويمكن أيضاً الاعتبار بأن التأثيرات الحديثة للسنوات العشرين الماضية – ثقافة الاستهلاك، ووسائل التواصل الاجتماعي، والإسكان الفردي، والاستخدام الشامل للتكنولوجيا – دفعت العديد من سكان الضفة الغربية إلى التركيز على التقدم الشخصي أكثر من تركيزهم على الأيديولوجيات والالتزامات الجماعية التي تغذي الانتفاضات الجماهيرية. وبالنسبة لأولئك الذين عاشوا الانتفاضة الثانية، فمثل هذه التأثيرات يمكن أن تجعلهم أكثر ميلاً إلى تفضيل الوضع الراهن البغيض على تجربتهم السابقة مع الحرب الأوسع نطاقاً، والفوضى، والحصار.
وبطبيعة الحال، حتى لو كان هذا التفضيل سائداً في الضفة الغربية، إلا أنه ليس ثابتاً، كما ولا ينطبق بالضرورة على الفلسطينيين الشباب، الذين هم أكثر ميلاً إلى التماهي مع “حماس” وغيرها من الجماعات العنيفة. ويتزايد نفورهم من “السلطة الفلسطينية”، حيث يشير العديد من استطلاعات الرأي والتحليلات إلى أن الكثير من السكان المحليين ينظرون إلى مؤسسات مثل “السلطة الفلسطينية” باعتبارها شراً هم بغنى عنه وعائقاً أمام تقدم الحركة الوطنية الفلسطينية والتحرر من الاحتلال.
لكن على الرغم من الانتقادات المشروعة لخطاب “السلطة الفلسطينية” وسلوكها، فلدى الإسرائيليين مصلحة أساسية في منع انهيارها، جزئياً لكي تتمكن من الاستمرار في العمل كضابط للإرهابيين وحاجز في وجه صعود “حماس” في الضفة الغربية. وفي هذا السياق، لن يساهم أولئك الذين يزعمون أنه لا فرق يذكر بين “السلطة الفلسطينية” و”حماس” إلا في تمهيد الطريق أمام هذه الأخيرة للسيطرة على الحركة الوطنية الفلسطينية.