هل غيّرت بريطانيا وألمانيا موقفيهما من الحرب في غزة؟

هل غيّرت بريطانيا وألمانيا موقفيهما من الحرب في غزة؟

بقيت كل من بريطانيا وألمانيا من أبرز الداعمين لإسرائيل في أوروبا الغربية، حتى إنهما امتنعتا عن التصويت على قرار الأمم المتحدة المطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، الذي أيدته 153 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا. غير أن مقالا مشتركا نشرته صحيفة «صاندي تايمز» البريطانية لوزيري الخارجية البريطاني ووزيرة الخارجية الألمانية، كشف عن تغير في موقف البلدين مما يجري في غزة، حيث قالا، إن حصيلة القتلى من المدنيين كانت مرتفعة جدا في هذه الحرب، وإن بلديهما سيعملان كل ما باستطاعتهما لتمهيد الطريق من أجل الوصول، إلى وقف إنساني لإطلاق النار لإيصال المساعدات، وإطلاق سراح المزيد من الرهائن بما يؤدي مستقبلا إلى سلام دائم.
لا شك في أنه مع الارتفاع المخيف في أعداد الضحايا من المدنيين، وتزامنا مع ضغط الشارع الأوروبي، بدأت تظهر بعض المواقف الاوروبية الرسمية المتحفظة على استمرار الحرب تتكشف شيئا فشيئا. هذه الدول باتت مستاءة بشأن توجهات هذه الحرب، وبأنها طالت، وهم يريدون أن يشهدوا لها نهاية، ولكن على الرغم من أن تصريحات وزيري خارجية بريطانيا وألمانيا تمثل تحولا نوعيا في اللهجة، وربما بداية انعطافة مهمة في الموقف الاوروبي الرسمي من الحرب، خاصة أن بريطانيا، على سبيل المثال، كانت قد أعلنت أنها ستفرض حظرا على تأشيرات المستوطنين الإسرائيليين، الذين يمارسون العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، بهدف منعهم من دخول المملكة المتحدة. كما أنها سوف توافق على الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية في قطاع غزة. إلا أن كل هذا لا يُعد تغييرا جذريا في المواقف، بل تغييرا ما زال في بداياته، فما دوافع هذا التغيير؟

ما يجري في غزة عرّى المواقف الأوروبية، وأوضح بشكل كبير ازدواجية المعايير، وأسقط ما تدعيه من منظومة قيمية كانت تنادي وتدعو بقية دول العالم إلى تبنيها

من المعروف أن الموقف البريطاني، وكذلك الموقف الألماني كلاهما لا يحبذان وجود حماس في المشهد السياسي الفلسطيني، لكنهما في الوقت نفسه ينتقدان عمليات القصف المنهجي لقطاع غزة، الذي أدى إلى تدمير البنى التحتية، والقضاء الكامل على الجهاز الطبي والخدمات الطبية في القطاع، وخسائر كبيرة في صفوف المدنيين، خاصة من النساء والأطفال. كما أن هناك الكثير من التساؤلات بدأت تُطرح في الأوساط الرسمية والشعبية في كلتا الدولتين عن، هل فعلا إسرائيل قادرة على القضاء على حركة حماس؟ وهل هذا الهدف سيكون ثمنه إزهاق أرواح كل السكان المدنيين في غزة؟ وهل يمكن حقا أن يتم القضاء على أيديولوجية أو عقيدة بالقصف والعمليات العسكرية؟ ولأنهم يعرفون أن كل ذلك غير ممكن، فقد بدأوا في السعي لبذل الجهود في سبيل التوصل إلى وقف فوري ومستدام لإطلاق النار. وقد تركّز الحديث في بريطانيا وألمانيا على شرط الاستدامة في وقف إطلاق النار، وليس الوقف الفوري فقط، ومعنى الاستدامة هنا كما يفسرونها هم، هي أن يتم وقف العمليات القتالية بهدف تهيئة الظروف المناسبة للفلسطينيين والإسرائيليين ليعودوا إلى طاولة المفاوضات، لأنهم يعتقدون أنه كلما زاد القصف والحصار على غزة، زادت الأمور سوءا. لكن ما المطروح في الغرب للوصول إلى مرحلة دفع إسرائيل لوقف القتال؟ وهل لديهم تصور بديل لنهاية هذه الحرب يكون مقبولا من قبل مصر والأردن بشكل خاص؟ وما المشروع الذي يمكن أن ترضى عنه دول المنطقة والطرف الفلسطيني كذلك؟
في بريطانيا بدا أنهم يميلون إلى حل الدولتين، لذلك وجدنا كلا من رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، ووزير خارجيته ديفيد كاميرون، قد أعربا عن استيائهم من تعليقات السفيرة الإسرائيلية في لندن، التي استبعدت أية فرصة لتحقيق حل الدولتين، وهم يقولون بأن الأسرة الدولية قادرة على أن تبذل الجهود بهدف العودة إلى حل الدولتين، وهم يرون أن المجتمع الدولي إذا كان جديا بشأن هذا الطرح فعليه العمل مع السلطة الفلسطينية في رام الله، ويزيدون على ذلك بالقول بأن على المجتمع الدولي، أن يعمل على مكافأة الأطراف الفلسطينية المعنية بالتفاوض، التي تخلت عن أعمال العنف وألقت السلاح، عن طريق الضغط على إسرائيل للموافقة على حل الدولتين، كما يشيرون إلى أن التخلي عن الاطراف الفلسطينية التي انخرطت في اتفاقيات السلام مع الإسرائيليين، هي ورقة الضغط التي ترفعها حماس وتقول بها للفلسطينيين، أنظروا إلى الاطراف الفلسطينية الذين ألقوا أسلحتهم، ماذا جنى الشعب الفلسطيني من وراء ذلك سوى حصار ودمار وقتل واستيطان. وعليه وفق الرؤيتين البريطانية والألمانية، إذا كان المجتمع الدولي جادا ويريد دعم الفلسطينيين المؤيدين للتفاوض وحل الدولتين، فعليه أن يُعبّر عن دعمه للسلطة الفلسطينية في رام الله، وأن يُعدّل من مشروعية هذه السلطة لتحظى بدعم أكبر في صفوف الفلسطينيين. حينذاك ستتوفر إمكانية للعبور بالفلسطينيين نحو المستقبل. لكنهم في الوقت نفسه يعترفون بأن منسوب التأييد الشعبي لحركة حماس قد ارتفع كثيرا، وبات الفلسطينيون يعتبرون أن ثمة حركة نشأت من بين صفوفهم تقاتل إسرائيل اليوم علنا، وأن الانتماء إليها هو الحل الوحيد للخروج من الأزمة الكارثية التي يعيشون فيها منذ عقود، إذن كيف ستتعامل إسرائيل مع هذه المواقف والضغوط من أقرب حلفائها؟
لا شك في أن إسرائيل ترى أن كل هذه المواقف ستشكل نقطة التحول في هذه الحرب، سواء على المستوى الدولي، أو على المستوى الإسرائيلي الداخلي، على المستوى الدولي هي ترى من دون أدنى شك، أن هناك تحولا ملموسا في الخطاب، من الدول التي تُعتبر من أكبر وأهم أصدقاء إسرائيل منها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا، وهؤلاء يطالبونها اليوم بخفض وتيرة الحرب، ومع أنها تعرف جيدا أن مواقف هذه الدول لم تتغير من جهة اعتبار حركة حماس تنظيما إرهابيا، وأن لا مستقبل لقطاع غزة وسلطة حماس قائمة فيه، لكنها لا يمكن أن تسمح بشهور وشهور من الحرب حتى تحقق إسرائيل أهدافها. وعليه لا خيار لإسرائيل في أن تتجاهل هذه الضغوطات. وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تواجهها اليوم. أما على المستوى الإسرائيلي الداخلي فقد بات واضحا للجمهور الإسرائيلي وعلى المستوى السياسي، أنه من الصعب القضاء على حركة حماس، ومن الصعب تحرير أسراهم بعمليات خاصة، لذلك بدأت إسرائيل تُمني نفسها بما تسميه المرحلة الثالثة من الحرب لتفعيل التأييد الدولي والمحلي، وأعلنت أن القتال سيكون بوتيرة منخفضة أو بشكل محدود لأغراض عسكرية وسياسية، مثلما تطلق عليه شل قدرات حماس العسكرية واغتيال قادتها. وإذا حصلت على دعم من بعض الدول العربية ومن الدول الأوروبية في هذا الموضوع، فيمكن أن تفرض شروطها في الأخير في هذه الحرب كما تتوقع. إن ما جرى ويجري في غزة قد عرّى المواقف الأوروبية، وأوضح بشكل كبير ازدواجية المعايير، وأسقط ما تدعيه من منظومة قيمية كانت تنادي وتدعو بقية دول العالم إلى تبنيها. وحرك الشارع الاوروبي منددا بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل بدعم غربي، مُسجّلا تقدما كبيرا على طبقته السياسية في الوعي والعدل والإنصاف، وبات زعماء الغرب اليوم تحت ضغط الشارع المناهض لسياسة الغرب في محاباة إسرائيل والرضوخ لها.