وكأنها حرب نفسية، تلك التي نشاهدها على شاشات التلفزيون بشكل يومي، سواء في المؤتمرات الصحافية أو في الحوارات، حول ما بعد انتهاء العدوان على غزة، أو ما يطلق عليه «اليوم التالي» لانتهاء الحرب، خصوصاً على لسان رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، ووزير دفاعه، ورئيس أركانه، مع ملاحظة أن الأول جاء والده من وارسو في بولندا، والثاني أيضاً لأبوين بولنديين، والثالث جاء والده من روسيا، بما يشير إلى أننا أمام تمثيل صارخ للاستعمار، يمارس كل أنواع الموبقات في وضح النهار، دون أدنى خجل، ودون أي اعتبار لقواعد قانونية أو إنسانية.
فقد بات ثلاثتهم الأكثر حديثاً عن ترتيب المستقبل لأبناء الأرض الفلسطينيين، سواءً في الداخل الإسرائيلي، أو في القدس والضفة الغربية، وبشكل خاص في قطاع غزة، هل سيحكمون أنفسهم بأنفسهم، أم تحت الاحتلال، أم من خلال قوات دولية، أم من خلال نظام حكم السلطة في رام الله، أم بإعادة توطينهم في بلدان ومناطق أخرى؟ إلى غير ذلك من كثير أصبح شائعاً تداوله أيضاً في العواصم الأوروبية، وبالطبع الأمريكية.
يجب الوضع في الاعتبار، أن اليوم التالي للحرب، يبدأ وينتهي من الشعب الفلسطيني دون غيره، بمعنى أنه آن أوان وحدة الصف داخل الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة
ولأن العواصم الأوروبية والأمريكية، نصبوا أنفسهم أوصياء على العالم، وبشكل خاص على القضية الفلسطينية، فإنهم لا يتورعون عن البحث علانيةً في هذا الشأن، بتصريحات مقيتة، عفى عليها الزمن، ما دام الأمر يتعلق بشعوب ناضجة، ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وكأن هؤلاء وأولئك لم يستوعبوا دروس الماضي أبداً، بحكم أنهم يستمتعون بالقتل وسفك الدماء، وتجربة الجديد في عالم السلاح، حتى إن كانوا ينقضون بذلك كل ادعاءاتهم المزيفة حول الأخلاق والمساواة وحقوق الإنسان وما شابه ذلك. المراقب لحوارات النخبة على الجانب الإسرائيلي سيكتشف أن الهمجية والتطرف، سمة يهودية عامة، بدليل أن الحكومة الحالية، الإرهابية المتطرفة، جاءت إلى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة المباشرة، هي إذن نتاج الشارع وإفراز طبيعي للرأي العام هناك، لا يستطيع أحد الآن اعتبار تلك الحكومة المتطرفة مجرد فئة أو ثلة من المارقين، بعد تلك الحماقات العنصرية التي ترتكبها على مدار الساعة، سواء من خلال المستوطنين، أو من خلال جيش الاحتلال، دون حسيب أو رقيب. نخبة السياسيين والعسكريين ومعظم الإعلاميين هناك، أصبحوا يتحدثون باللغة الإرهابية نفسها التي يتحدث بها وزيرا الأمن القومي والمالية، باعتبارهما تمثيلاً للأحزاب الدينية الصهيونية، التي لا تكل من الجهر بعقيدتها الداعمة والمحرضة على قتل الآخر، مادام غير يهودي، وهو نموذج لو تكرر في أي بلد عربي أو إسلامي لقامت الدنيا ولم تقعد، وهو ما يجعلنا نلقي باللوم هنا على العواصم العربية والإسلامية، التي لا تحرك ساكناً تجاه ذلك الذي يجري على الساحة، باعتباره استهدافاً للجميع، وليس للشعب الفلسطيني فقط. الغريب في الأمر، أن القوى الصهيونية العالمية، من واشنطن ولندن، مروراً ببرلين وباريس، وحتى أوتاوا وكانبيرا، جرفت معها العقل الرسمي العربي هو الآخر نحو الحديث نفسه «اليوم التالي لانتهاء الحرب» كيف سيكون، ولمن حق الإدارة؟ بمنأى عن أصحاب الشأن، وهو ما يشير إلى خلل واضح في الطرح والتفكير، والضرب عرض الحائط بالقوانين والمواثيق الدولية، غير عابئين بالرأي العام العالمي، أو بما سوف تسجله كتب التاريخ في هذا الشأن.
نحن إذن أمام تأكيد واضح على أن منطق القوة هو الذي ما زال يحكم العالم في ألفيته الثالثة، أو بمعنى أدق: شريعة الغاب، وليس أدل على ذلك من قتل أكثر من 20 ألفاً من المدنيين الفلسطينيين بدم بارد، بخلاف نحو 8000 مفقود، هم في حقيقة الأمر في عداد الشهداء أيضاً. أعتقد أن العدالة تقتضي أن يكون اليوم التالي للحرب متعلقاً بمحاكمات أمام الجنائية الدولية للسفاحين في الكيان الصهيوني وداعميهم حول العالم، العدالة تقتضي أيضاً العمل على الحد من التفوق المسلح لهذا الكيان، الذي ما يكاد يمر يوم أو حتى ساعات، منذ ما قبل الحرب، إلا وسقط على يديه الكثير من القتلى والجرحى، لا فرق في ذلك بين النساء والأطفال، أو الشباب والشيوخ، العدالة تقتضي أيضاً البحث في كيفية القصاص لهؤلاء وأولئك، حتى لا يعتقد الجناة طوال الوقت أن بإمكانهم الإفلات من القانون، بحكم أنهم في حماية القوى المهيمنة على العالم عسكرياً وفي المحافل الدولية في الوقت نفسه.
كان من المهم أن تضطلع المنظمات العربية والإسلامية بالإعداد لهذا اليوم، وفي مقدمتها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، بالسعي لتهيئة المناخ الدولي في هذا الصدد، وجمع كل الأدلة التي من شأنها إثبات المجازر اليومية، والتي تجاوز عددها 2000 مجزرة خلال نحو 80 يوماً، ناهيك عن تعمد استهداف المستشفيات والمدارس ودور العبادة ومخيمات النازحين، وغير ذلك من كثير سيصبح من الماضي بمجرد انتهاء الحرب، كما جرت العادة في كل مرة، على مدى أكثر من سبعة عقود. أيضاً كان من المهم أن تبذل منظمات المجتمع المدني، خصوصاً منظمات حقوق الإنسان، في كل الدول العربية جهداً في هذا الصدد، بتوثيق أحداث ذلك العدوان اليومي، بالتعاون مع وسائل الإعلام المختلفة، التي تقوم بتغطية هذه الأحداث على مدار الساعة، وما جرائم قتل الصحافيين والإعلاميين وطواقم الإسعاف والدفاع المدني، إلا شهادات كافية لإثبات الحالة، التي لم تجد اهتماماً على المستوى الرسمي العربي حتى الآن، لأسباب معلومة للجميع، إلا أنه يجب الوضع في الاعتبار، أن اليوم التالي للحرب، يبدأ وينتهي من الشعب الفلسطيني دون غيره، بمعنى أنه آن أوان وحدة الصف داخل الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة، بعد الاتفاق من حيث المبدأ على المقاومة كخيار وحيد، في مواجهة هذا الإجرام الإسرائيلي، الممول أمريكياً، والمدعوم غربياً، مع الوضع في الاعتبار أنه لم يعد هناك مجال للتراجع، أو الانبطاح، بعد كل هذه الدماء التي سالت، وكل هذا الدمار غير المسبوق، حتى في الكوارث الطبيعية. اليوم التالي، كما تشير الأحداث الجارية، سيكون أكثر أهمية من الأحداث نفسها، ذلك أنه يمثل الحصاد، الذي سيتحدد حجمه اعتماداً على مدى ذكاء المفاوض، ومدى إصراره على تحقيق الهدف، ومدى إيمانه بقضيته، وجميعها مواصفات الشخصية الفلسطينية التي أبهرت العالم على كل المستويات خلال الشهور الماضية بشكل خاص، بعد أن حققت صموداً خيالياً، وانتصاراً أسطورياً، على الرغم من الخسائر البشرية الكبيرة والمادية الواسعة، إلا إنها الحقيقة التي شهد بها العدو قبل الصديق.
نحن في حقيقة الأمر أمام حالة من السفه الإسرائيلي والسفه الدولي في آن واحد، عندما يتحدث هؤلاء وأولئك عن مستقبل الحكم في قطاع غزة، أو مستقبل الوضع في الضفة، دون العودة إلى الشعب الفلسطيني صاحب القضية، هي أيضاً حالة من الهرتلة والهذيان تلك التي يقترح فيها البعض إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، أو كيان غير قابل للحياة في غزة وآخر متقطع الأوصال في الضفة، هي حالة من الغباء تلك التي لم يستوعب فيها البعض حتى الآن طبيعة الشعب الفلسطيني المثابر، أو حقيقة القضية الأكثر وضوحاً في التاريخ المعاصر. وفي كل الأحوال، فإن المراقب للأحداث يعي أن العالم الآن أمام حقيقة مؤكدة، وهي أن منطقة الشرق الأوسط ككل، بعد انتهاء العدوان على قطاع غزة لن تكون أبداً كما كانت قبلها، بفعل المقاومة الفلسطينية وعدالة القضية، من الآن فصاعداً لن يكون هناك الجيش الذي لا يقهر، بعد أن تحول إلى جيش منكسر مهزوم لا يقتل سوى النساء والأطفال، ولا يقصف سوى المنازل والمستشفيات ودور العبادة، من الآن فصاعداً لن يحاضرنا الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ولا يحق له أن يحاضرنا عن حقوق الإنسان، أو احترام القوانين الدولية وما شابه ذلك، من الآن فصاعداً فلسطين قضية أبنائها فقط، لا يستطيع العرب المزايدة بشأنها، ولا يحق لهم تناولها في المنتديات أو الغرف المغلقة سلباً أو إيجاباً.
على أية حال، أعتقد أن الوقت لم ينفد بعد، حتى يمكن صناعة اصطفاف من شأنه العمل على تهيئة المجتمع الدولي لذلك اليوم التالي للحرب، بما يناسب عدالة القضية الفلسطينية، وليس بما يناسب الكيان المحتل، الذي يسعى إلى فرض مزيد من التنكيل والحصار والتجويع، بحق الأشقاء الفلسطينيين، بل إلى فرض مزيد من السيطرة والهيمنة على المنطقة، في غياب متعمد للعدالة الدولية ليس فقط، بل في غياب للعقل العربي، الذي لم يفطن حتى الآن إلى أن المقاومة الفلسطينية هي آخر حائط صد أمام تنفيذ المخطط الصهيوني بإخضاع المنطقة نحو مزيد من الابتزاز، ومزيد من التبعية، ومزيد من نزع الهوية.