في مطلع 2024 يعود الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين ليبحث في أمر ست نقاط حدودية عالقة على الخط الأزرق البري بين لبنان وإسرائيل. على مدى سنوات من أصل 13 نقطة، حل التفاوض سبع نقاط وبقيت ست.
ومن أسباب الخلاف على هذه النقاط أنها رسمت على الخريطة الورقية بقلم حبر عريض، لكن سماكة الحبر على الورق، عادلت نحو 50 متراً “مبهماً” على الأرض. لا بد أن يتمتع المراقب بتفاؤل مفرط ليصدق أن حل مسألة هذه الأمتار، سيعيد الهدوء إلى جنوب لبنان.
منذ عام 1978 أصدر مجلس الأمن في الأمم المتحدة ثمانية قرارات في الشأن اللبناني، لكن معظم هذه القرارات بقيت حبراً على ورق. ففي 8 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي اليوم التالي لهجوم “حماس” في غلاف قطاع غزة، فتح “حزب الله” جبهة الجنوب اللبناني تحت شعار “الإسناد”.
ويتبين من الوقائع أن هذا “الإسناد” لم يخفف من وطأة العنف الإسرائيلي على غزة، لكن “حزب الله”، ومحور الممانعة إجمالاً، يملكان لكل معركة تفسيرات وتبريرات، لم ترد في أهم كتب كبار قادة الحروب في التاريخ.
مختصر هذا المنطق الشاذ يستند إلى تعداد قتلى العدو وخسائره، من دون أي اعتبار لقتلانا وخسائرنا المادية والاقتصادية. بهذا المعنى يبدو “إنسان” العدو أكثر قيمة من “إنساننا”. وعطب دبابة أهم من تدمير حي بكامله.
يركز “حزب الله”، بعدما فتح المعركة، على أعداد المستوطنين الذين نزحوا من بلدات شمال إسرائيل، ويتناول عرضاً موت الحياة في عشرات البلدات اللبنانية، ناهيك بالتدمير الممنهج الذي تتبناه إسرائيل وفق خطة من الواضح أنها كانت معدة سلفاً.
يجب أن يموت اللبناني كل يوم ويفقد رزقه لنؤكد للعالم أنهم “متوحشون”. منطق يقوده فكر مستتر يحمل في طياته الخوف من يوم ينتهي فيه الصراع.
بالعودة للقرارات الأممية، نص القرار 425 عام 1978 على انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية. وفي عام 2000 انسحب الجيش الإسرائيلي، وأصيب محور الممانعة، وخصوصاً النظام السوري و”حزب الله”، بالإرباك.
كل من تابع المجريات بعد 25 مايو (أيار)، تاريخ الانسحاب، لاحظ أن الوجوم السياسي ساد لفترة، قبل ابتداع ذريعة مزارع شبعا. هذه المزارع كانت تسيطر عليها سوريا وخاضعة للقرار 242 الذي صدر أعقاب حرب 1967.
وبعد حرب 67 احتلتها إسرائيل كونها ضمن السيادة السورية، ومنذ ذلك الوقت، وفي مواقف تقول الشيء ونقيضه، تتهرب دمشق من الاعتراف الصريح بـ”لبنانية” هذه المزارع.
وعلى رغم التحالف الوثيق مع النظام السوري، لا يبذل “حزب الله” ومن ورائه إيران، أي جهد مع دمشق لترسل ورقة في هذا الشأن تودع ضمن الوثائق في الأمم المتحدة.
وعلى هذا المنوال يتعامل “حزب الله” مع القرار 1701، هذا القرار سيكون بلا منازع الملف الأبرز في عام 2024. طبعاً “حزب الله” يعتبر أن إسرائيل لم تحترم هذا القرار الذي صدر بعد “حرب تموز” عام 2006.
لمدة 18 سنة والهدوء سيد الموقف في الجنوب، ما عدا حوادث متفرقة. وبدا من الواضح أن “الإسناد” تخطى أخطار “الانتهاكات الإسرائيلي”، وأعاد لبنان إلى دائرة الخطر الكبير.
فعلى جرى عادته أمعن “حزب الله” في تهشيم صورة الدولة عندما، مرة جديدة، فتح معركة بخلاف إرادة الحكومة والإجماع الشعبي. وأمعن في عدائيته ضد قوات حفظ السلام “يونيفيل”، بافتعال متواتر لحوادث أدت في بعضها إلى سقوط قتلى، وهذا الإمعان في الخروج على الشرعيتين اللبنانية والدولية، سيجعل الموقف الدولي في موقع المتفهم أو المتغاضي أو حتى المؤيد، في حال انتقلت إسرائيل إلى الحرب التي تتوعد فيها بتدمير لبنان.
في هذا الجو المشحون تحمل سنة 2024 نذر شؤم وويلات. وإذا بدأت إسرائيل بطوفانها اللبناني، لا يبدو أن ثمة “إسناد” فاعل وجاد يمكن التعويل عليه.
في أدبياته يحتقر “حزب الله” دور الأمم المتحدة وقراراتها، لذا سيجد كل الذرائع ليتحايل على إلزامه بسحب مسلحين إلى ما وراء نهر الليطاني تنفيذاً للقرار 1701.
كانت فرنسا “صاحبة القلم” عندما صدر هذا القرار عام 2006، ومنذ ذلك الوقت أبقت على قنواتها مع “حزب الله” في ملفات تعني بالشأنين الداخلي اللبناني والخارجي.
وقبل أيام طفح الكيل مع الرئيس إيمانويل ماكرون وقال صراحة إن “حزب الله” منظمة إرهابية. تطور لافت حجبت يوميات غزة والبحر الأحمر التمعن بمخاطره. وبينما حملت فرنسا “قلم” القرار 1701 عام 2006، يعود هوكشتاين حاملاً مسطرة تقيس أمتار الخط الأزرق المختلف عليها. وهي ببساطة معضلة يقارب عمرها المئة سنة يريد هوكشتاين حلها بمسطرة.