قام مشروع الدولة الإسرائيلية منذ نشأته على افتراض محاولة تصفية الشعب الفلسطيني وإزاحته من أرضه، ومراجعة مراحله التاريخية وأدبياته كاشفة بوضوح عن ذلك، وهناك من يتذكر السردية الصهيونية منذ البداية ودعاياتها التي كانت تحاول ترديد أكذوبة أنهم شعب بلا وطن جاء إلى أرض بلا شعب. ولهذا ارتكبت الميليشيات الصهيونية عند بدايات هجرة اليهود إلى إسرائيل عشرات المذابح تحت سمع وبصر قوات الاحتلال البريطاني، وصنفت إرهابية عند بريطانيا ذاتها لمن لا يذكر أو يتناسى وقائع التاريخ. وفي الفصل الراهن من الصراع تبدو إسرائيل متعجلة، بل ومهرولة في تنفيذ هذا المخطط، ويشعر كثيرون أنها تقترب أكثر من ذي قبل، وهو أمر يحتاج إلى تأمل عميق وعدم تسرع.
وفي الحقيقة أن ما يعرقل إسرائيل منذ البداية أن هذه الوقائع بدأت في القرن الـ20 ولم تحدث في بدايات العصور الحديثة عندما كانت وسائل التواصل ما زالت بدائية، ومن ثم تمت هذه الجرائم في العالم الجديد (الأميركتين وأستراليا) بمستويات مختلفة كان أشدها ما حدث في الولايات المتحدة، لكنها فشلت في جنوب أفريقيا لاعتبارات عديدة أبرزها عدم التوازن الديموغرافي بين المستوطنين البيض والعرقية الأصلية الأفريقية، وفي ظل مناخ حركة تحرر واسعة ضد الاستعمار الغربي في القارة السوداء، ولأن فصول ومراحل النظام العنصري كانت أبطأ في خطواتها، إذ كشف عنها عالم القرن الـ20.
وحدها فلسطين الآن هي النموذج محل التساؤل، وما إذا كانت ستفشل مثل جنوب أفريقيا أم ستنجح ضد عقارب الزمن والتاريخ مثلما حدث في العالم الجديد.
والمؤكد أنه على رغم قساوة وعنف المستوطنين اليهود عند قيام هذه الدولة لم ينجحوا في إزاحة كل الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أراضيه، فبقي معهم ما يسمون الآن بعرب إسرائيل والمقهورين من السلطة في تل أبيب والمظلومين من أنفسهم ومن العالم العربي. ثم كانت حرب 1967 وضم مزيد من الأراضي في الضفة وغزة والجولان السورية لتبدأ المرحلة الجديدة من محاولة تصفية الشعب الفلسطيني التي بدأت فصولها الختامية، أو هكذا تخطط إسرائيل، في التصاعد منذ الأيام الأولى لما بعد 1967، وتسارعت اليوم مع وصول اليمين الديني المتطرف إلى الحكم مع نتنياهو زعيم “الليكود” الذي قاد خطوات منذ أكثر من عقدين في المسارعة في ابتلاع الأراضي ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية وإكمال مشروع الاستيطان.
لكن ثمة عوامل متداخلة ومتضادة في ما يتعلق بمصير الموجة الراهنة العالية لتهجير الشعب الفلسطيني من غزة، التي يلزم الإشارة إلى عدد من أبعادها.
البعد العربي
يحظى الموقف العربي دوماً بالانتقاد من بعض الأطراف الفلسطينية والعربية كذلك في ما يتعلق بمدى الدعم الذي قدمته الدول والشعوب العربية والمسؤولية عما وصلت إليه الأمور الآن، وفي الحقيقة فإن هذه السردية مرسلة وغير دقيقة والإجابة عنها أكثر تعقيداً من الطروحات الشعبية وحتى الأكاديمية في هذا الصدد، وربما تعكس خيبة توقعات بالأكثر، فعندما بدأ الاستيطان اليهودي كان أغلب العالم العربي تحت الاحتلال الأجنبي، ولكن الشعوب وحتى الحكومات العربية وقفت ضد هذا الاستيطان، وكانت أضعف من أن تواجه عدواً مسلحاً بشكل حديث، ومن ثم كانت هزيمة الجيوش العربية الوهمية التي دخلت حرب 1948 من دون استعداد كاف، وقبلها رفضت الحكومات العربية والقوى الفلسطينية قرار التقسيم عام 1947 الصادر من الأمم المتحدة تحت أوهام القدرة على التصدي لإنشاء الدولة، وراجعت قلة من العرب بعد الهزيمة في العام التالي الحكمة من نتائج هذا الرفض، الذي لو كان تحقق لكانت هناك أوضاع فلسطينية مختلفة تماماً الآن وربما دولة مزدهرة، ويظل المنطق الذي ما زال كثيرون يتمسكون به حتى وقتنا هذا هو كيف يمكن قبول التنازل عن الأرض وهو منطق ثبت خطأه، ومن ناحية أخرى لم يكن للشعب الفلسطيني، الذي عاش ضمن الدولة الإسلامية منذ نشأة هذه الدولة، تجارب حقيقية في الحكم والإدارة حتى بشكل مشابه لأغلب الدول العربية التي كانت ضمن هذه الدولة وتدير بعض مرافقها ومصالحها من خلال عواصمها التابعة للدولة الإسلامية.
وفي الحقيقة فإن المراحل التالية الطويلة من النكبة وحتى هزيمة 67 ثم ضم مزيد من الأراضي لإسرائيل حتى “كامب ديفيد” واتفاق السلام المصري – الإسرائيلي، ثم عملية مدريد بعد حرب تحرير الكويت حتى اتفاق “أوسلو”، كلها مليئة بالتفاصيل التي يمكن أن تغطيها مئات الألوف من الصفحات، وفيها دعم مادي عربي كبير للشعب الفلسطيني وكذا سياسي، وفيها أيضاً انقسام عربي وظف قوى فلسطينية مختلفة، وهذا التوظيف أضعف القضية، ولكن كل فصيل يعتبر الجبهة العربية التي تناصره هي الأفضل لدعم القضية الفلسطينية، وفي هذا الصدد تحديداً يمكن اعتبار الدور العربي سلبياً في تأثيره في القضية، ولكن لهذا وجه آخر وهو أن المسؤولية تقع كذلك على الجانب الفلسطيني، وعلماً بأن هناك ظواهر مشابهة عرفتها بعض قوى التحرر الأفريقية وانعكست سلباً حتى في مراحل ما بعد الاستقلال.
ولكن بجوار كل ما سبق كان الدعم الاقتصادي والسياسي العربي عنصراً رئيساً في قدرة الشعب الفلسطيني على النضال والتحمل، وعلى رغم التراجع الكبير في حجم المساعدات العربية لفلسطين في السنوات الأخيرة بسبب تغيرات في توجهات أطراف عربية وإشكالات في الواقع الفلسطيني، لا يمكن تصور قدرة الشعب الفلسطيني على التحمل من دون الدعم العربي والدولي.
وما سبق لا ينفي أن قوة الجبهة العربية في مساندة الشعب الفلسطيني تراجعت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، ومعيارها تراجع المساعدات الاقتصادية الخليجية، وتوجهات التطبيع التي شهدتها السنوات الأخيرة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، لكن الشاهد أيضاً أن الدعم العربي، حتى المتراجع، لا يمكن تجاهله في دعم الموقف الفلسطيني بخاصة مع استمرار الحرب، كما لا يجب تجاهل أن هذه الحرب أيضاً أعادت أجيالاً عربية جديدة إلى التعاطف وإدراك معاناة الشعب الفلسطيني.
تضعضع وصمود
وأحد أبرز مفارقات هذه الحرب على رغم استمرار المخطط الإسرائيلي هو أنها أثبتت مجدداً نتائج الانقسام الفلسطيني وجمود الأوضاع في الضفة على إرباك سيناريوهات المستقبل الفلسطيني، لكن المفارقة من ناحية أخرى أن تاريخ المعاناة الفلسطينية وبخاصة في غزة بعد حروبها المتكررة أدى إلى ترسخ التصميم الفلسطيني على التشبث بالأرض، ويتصور بعضهم أن إجبار مئات الألوف على النزوح من شمال غزة إلى جنوبها سيستمر طويلاً، هو تصور لا تؤكده الشواهد، ويؤكده أيضاً المقاومة الفلسطينية المستمرة في الضفة الغربية والقدس بشكل خاص للضغوط والإرهاب الإسرائيلي لترك أراضيهم، التي لم تتوقف أبداً مع الحكومة الإسرائيلية الحالية.
وتحولت السياسة الأميركية، التي تبنت في بداية الحرب رؤية إسرائيل، عن تهجير أبناء غزة إلى مصر والأردن بعد أن ادركت استحالة هذا من البلدين، إلى توجه آخر بمحاولة البحث عن تسوية سياسية، والأفكار المطروحة حالياً مليئة بالتفاصيل الممكنة وأخرى غير ممكنة، وأخيراً نشرت “الشرق الأوسط” حواراً مع الدبلوماسي الأميركي المخضرم دينيس روس يتضمن رؤى أميركية جديدة بعضها جيد وبعضها بالأساس موضوع لخدمة إسرائيل، وتنطلق فرضيته الأساسية من القضاء على “حماس” ثم البحث عن خطوات طويلة لتسوية سياسية وتفعيل حل الدولتين.
ولأن الظروف لم تنضج بعد لحوار أكثر جدية بهذا الصدد، أتوقف فقط عند الدلالة الأساسية للطروحات والحديث الأميركي المتنوع على لسان بايدن ووزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي سوليفان وأخيراً روس، أن هذا الزخم مع أنه يتضمن كثيراً من السلبيات والأفكار التي قد لا تتحقق، لكنه أكد شيئاً أساسياً أن هناك إدراك دولي وأميركي متزايد اليوم أنه لا يمكن تصفية القضية والشعب الفلسطيني، وأن الأكثر رشادة، بما أنهم لا يبحثون عن العدالة والحق، هو البحث عن تسوية.
ولكن ما لم ينضج بعد أن تدرك إسرائيل استحالة تصفية شعب وقضيته في العصر الحديث، وحتى يحدث هذا الإدراك أو تجبر على قبوله سيستمر نزف ضحايا وشهداء فلسطين، ولكن لن تنجح تل أبيب في تصفية كل الشعب ولا قضيته.