ليس هجوم حماس 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على غلاف غزّة، كأيّ هجوم فلسطيني محدود سابق على مواقع إسرائيلية محدودة. وليس الهجوم الإسرائيلي المضادّ على قطاع غزّة أو ما سُمّي بعملية “السيوف الحديدية”، كأيّ عملية إسرائيلية سابقة ضدّ حماس والجهاد الإسلامي، مذ سيطرت حماس على غزّة عام 2007. الهجوم غير المسبوق ردّت عليه إسرائيل بإبادة غير مسبوقة لكلّ شيء حيّ في القطاع، تمهيداً لما يُقال إنّه تشجيع على الهجرة الطوعية الفلسطينية من غزّة إلى الشتات. لذا، فإنّ النتائج والآثار في المجال الإنساني هي فوق التصوّر. والتداعيات السياسية وإن كانت غير مطروحة علناً خلال القتال الآن، لكنّ النقاش السرّي مفتوح ضمن مبادرات وقف إطلاق النار ومباحثات أو مفاوضات اليوم التالي، وسوف تطال لاحقاً تحالفات حماس وعلاقاتها وبناها التنظيمية من القاعدة إلى القيادة وبالعكس. لا يمكن أن تبقى حماس كما كانت في 6 أكتوبر في حالتَي انتصارها أو هزيمتها عسكرياً على حدّ سواء. فإمّا أن تنتصر بأن لا تنهزم أمام أشرس حملة عسكرية مدعومة مباشرة من الولايات المتحدة وحلفائها، وإمّا أن تنهار وتخضع للإملاءات الإسرائيلية تحت عبء الإبادة المنهجية والوحشية في آن، لأنّها كحركة مقاومة ضدّ الاحتلال قادرة على التكيّف والقتال حتى أمد غير معلوم، إلا إن فقدت حاضنتها الشعبية. وفي الحالتين، ستظهر حماس جديدة عام 2024. لكن قبل استشراف مصير حركة حماس، في المدى المنظور، لا بدّ من استعراض أمرين: الأهداف الإسرائيلية المعلنة والسرّية، والمسار التاريخي للحركة منذ نشوئها، كي نتبيّن الانعكاسات المتوقّعة على حماس من جهة، ومدى المرونة التي تتمتّع بها الحركة كي تبقى ليوم آخر.
قد تكون حماس بهجومها على غلاف غزّة أرادت استفزاز إسرائيل لتقوم بهجوم مضادّ. لكن مع قتل فرد واحد من حماس سيظهر مكانه عشرة
أهداف نتانياهو وشركائه
إذا كان رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو هو الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، مع فريقه الحكومي الأكثر جنوناً كذلك، فإنّه والحال هذه، يتصرّف بطريقة غبيّة ظاهرياً إلى حدّ مدهش لا تقود إلا إلى تعزيز المقاومة الفلسطينية لأجيال آتية. فأهدافه المعلنة تشابه أهداف الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضدّ ألمانيا الهتلرية واليابان الإمبراطورية. فهو يريد اجتثاث حركة حماس عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، تحت ثلاثة عناوين: القضاء على حماس، وإزالة أيّ تهديد ينطلق من غزة عبر تجريدها من السلاح، وغرس ثقافة جديدة تمجّد الحياة لا الموت، وتنبذ كراهية اليهود، أو ما يسمّى معاداة الساميّة. وبالمقايسة، فإنّ ألمانيا تحت الاحتلال عقب الحرب، تعرّضت لإعادة تشكيل ذهني، مترافق مع إعمار مكثّف، وهو ما أسهم في قيام قوة اقتصادية هي الأولى في القارّة الأوروبية، لكن من دون أنياب. والأمر نفسه، خضعت له اليابان، مع الإبقاء على رمزية الإمبراطور الذي كان مقدّساً قبل الحرب. وجاء ذلك، عقب القصف الجوّي الشامل على المدن الرئيسية الألمانية فسقط عشرات آلاف القتلى، والهدف هو نفسه في غزّة: ترويض الشعب وإبعاده عن الأفكار والأحزاب الخطرة. كما ضُربت اليابان بقنبلتين نوويّتين، الأولى في هيروشيما والثانية في ناغازاكي، في 6 و9 آب 1945 على التوالي، وسقط فيهما مئات آلاف القتلى فوراً أو لاحقاً بتأثير الإشعاعات القاتلة، فقط لإثبات وجهة النظر الأميركية للشعب الياباني: فإمّا التخلّي عن الإمبراطور والطغمة العسكرية أو الفناء. والمفارقة أنّ جدلاً وقع بين الرئيس جو بايدن ونتانياهو حول النقطة نفسها في وقت سابق هذا الشهر. فنتانياهو استشهد بما فعله الحلفاء لتبرير إبادة غزّة. لكنّ القطعة المفقودة في تلك المحادثة الصريحة بين الرجلين، هي أنّ إسرائيل وُلدت خارج النظام الدولي المتولّد من الحرب العالمية الثانية ونتائجها السياسية، وهي فوق قوانينه، ولا تخضع لأيّ نوع من المساءلة أو الحساب.
هذه الأهداف غير المعقولة، والتي لا يمكن تحقيقها بشهادة الخبراء العسكريين من كبار الضبّاط المتقاعدين في إسرائيل، وكذلك بحسب الرأي العامّ للإدارة الأميركية وخبراء مراكز الدراسات الاستراتيجية والعسكرية، ليست سوى التبرير الوقح لاستمرار جرف غزّة من أجل طرد السكّان بشكل نهائي، وهذا هو الهدف الحقيقي الوحيد. فلا إمكانية لحلّ الدولتين، بعد هجوم حماس، ثمّ هجوم إسرائيل على غزّة. لن يشعر الإسرائيليون بالأمان مطلقاً، سواء انتهت حماس أم لا. والقتل العشوائي للمدنيين الفلسطينيين لن ينتج منه سوى تجنيد أضعاف مضاعفة من المقاومين الجدد، حتى إنّ إيلون ماسك Elon Mask، وهو رجل أعمال من جنوب إفريقيا، وهو الأكثر ثراء في العالم (أكثر من 222 مليار دولار)، ويملك عدّة شركات كبرى من أهمّها شركة الصناعة الفضائية Spacex، وحاز حديثاً على منصّة إكس، تويتر سابقاً، انتقد أسلوب الهجوم الإسرائيلي الانتقامي، وقال في حوار متلفز: “قد تكون حماس بهجومها على غلاف غزّة أرادت استفزاز إسرائيل لتقوم بهجوم مضادّ. لكن مع قتل فرد واحد من حماس سيظهر مكانه عشرة. لو أنّ إسرائيل تصرّفت بطريقة ذكيّة، من خلال إرسال المساعدات إلى القطاع بدل تدميره، لكان ذلك أجدى”.
مرونة حركة حماس
أمّا العنصر الثاني الذي لا يقلّ أهمية، فهو مدى قدرة حركة حماس على استيعاب تحدّيات المرحلة التالية بعد وقف إطلاق النار، أو سريان هدنة طويلة قد تكون غير معلنة وغير رسمية، أي من دون التزامات، وتجاوز الاختلافات المفترضة بين الجناحين السياسي والعسكري، بين من هم فوق الأرض ومن هم تحتها، بين حماس الخارج وحماس الداخل، وبين الحركة ككل وبين بقيّة السكّان، بعد هذا الناتج الملتبس لعملية طوفان الأقصى، بين الخراب الكبير والنصر العظيم. إنّ تاريخ الحركة يحفل بشواهد كثيرة على قدرة كبيرة على التكيّف، فضلاً عن مراكمة تصاعديّة للقدرات القتالية والتصنيعية والاستخبارية، بعد معارك متتالية في الأعوام 2008-2009، و2012، و2014، و2019، و2021، وهو ما لا يمكن إغفاله أو تخطّيه أو التخلّي عنه من دون أيّ ثمن سياسي يوازيه، وهو ما لا يمكن لإسرائيل دفعه بأيّ حال. فتبييض السجون الإسرائيلية هو أسهل الشروط الفلسطينية مقابل إطلاق الأسرى الإسرائيليين، وأمّا أصعبها فهو منح الحرّية لغزّة، أي فكّ الحصار وفتح المعابر مع مطار وميناء، وإعمار القطاع دون شروط أو قيود.
قد يكون يحيى السنوار الآن هو الأكثر شعبية في فلسطين وخارجها، بحسب استطلاعات الرأي وتقديرات الأجهزة الاستخبارية الغربية، وسواها
قبل إعلان حركة حماس عام 1988، كانت مجرّد مركز إسلامي وجمعية خيرية في قطاع غزّة، وامتداداً عضوياً لجماعة الإخوان المسلمين، ومركزها الأساسي في مصر المجاورة. وبما أنّ قطاع غزّة ما بين عامَي 1948 و1967 خضع معظم الأحيان للإدارة العسكرية المصرية المباشرة، فإنّ التيار الإسلامي فيها، تأثّر بمجريات الأحداث في مصر نفسها بين الحكم الناصري والإخوان المسلمين. ومع سقوط غزّة مجدّداً بيد الجيش الإسرائيلي عقب حرب الأيام الستّة عام 1967، بعد احتلال قصير أثناء العدوان الإسرائيلي عام 1956، نشأت خلايا متفرّقة لفرع الإخوان، تنشط أساساً في المجال الدعوي والتعليمي والاجتماعي. وظلّت كذلك طوال السبعينيات وإلى منتصف الثمانينيات، قبل اندلاع الانتفاضة الأولى انطلاقاً من غزّة عام 1988. وانشغل الإخوان في غزّة، بما كان ينشغل به رفاقهم في الدول العربية المجاورة، وهو العمل على تأسيس الخلايا التنظيمية، وتُعرف الواحدة منها بالأُسرة، ومراكمة الإنجازات الصغيرة، من ضمن الهدف العامّ، وهو استعادة الخلافة أو إقامة الدولة الإسلامية في أيّ بلد، باعتبار أنّ هذه هي المقدّمة الضرورية لتحرير فلسطين. فالتحرير في تلك الحقبة السرّية، احتلّ المكانة الثانوية. وكما يذكر خالد نمر أبو العمرين، في كتابه “حماس حركة المقاومة الإسلامية، جذورها – نشأتها – فكرها السياسي”، فإنّ تقوقع إخوان غزّة ضمن الحراك العامّ للتنظيم الدولي، دفع بعض الكوادر الطلّابية إلى الانشقاق، وظهر تنظيم إسلامي جديد متأثّر بالثورة الإسلامية في إيران، يدعو إلى المقاومة المسلّحة ويحمل اسم الجهاد الإسلامي، وعلى رأسه فتحي الشقاقي، الذي درس في مصر، وأصدر كتابه المشهور عام 1979 بعنوان: “الخميني الحلّ الإسلاميّ والبديل”. ومن المفارقة أنّ الشيخ عز الدين القسام كان من الرموز التي ألهمت حركة الجهاد الإسلامي في البدايات، قبل أن يصبح رمز الجناح العسكري لحماس. وكان تنظيم الجهاد يتلقّى سيلاً من الاتّهامات من “الإخوان” الفلسطينيين، بسبب انحيازه إلى إيران. لكن في عام 1984، بدأت تتشكّل الخلايا العسكرية الأولى لِما بات يُعرف لاحقاً بحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وظهرت كتائب عز الدين القسام. ثمّ باتت الحركة التي هي سنّيّة قلباً وقالباً، من أبرز مكوّنات حركات المقاومة في المنطقة المدعومة من طهران. وهي مرنة في علاقاتها الخارجية، فلا تستثني إلّا من استثناها. لا تخوض في صراعات الآخرين، فيما الانخراط جزئياً في الصراع السوري كان موضعياً، وليس قراراً رسمياً. حتى تحالفها مع إيران، لم يعنِ انحيازها ضدّ دول عربية وإسلامية. فليس خصوم طهران هم خصومها. الثابت لديها هو قضية الشعب الفلسطيني. وعليه، فمن المفترض أن تتّخذ حركة حماس القرارات المطلوبة في كلّ مرحلة بما يتلاءم مع مقتضياتها، ولديها الشخصيّات المناسبة أيضاً بما يحقّق المقاصد والأهداف.
قد يكون يحيى السنوار الآن هو الأكثر شعبية في فلسطين وخارجها، بحسب استطلاعات الرأي وتقديرات الأجهزة الاستخبارية الغربية، وسواها. ومن المؤكّد أيضاً، أنّه لا يمكن القضاء على حركة مقاومة بهذه الطريقة الفجّة، ومن دون تقديم أيّ حلول حقيقية لأزمة الاحتلال الإسرائيلي. بل إنّ صمود مقاتلي حماس الآن يلبّي ضرورات المرحلة الراهنة في فلسطين ومجمل العالم العربي والإسلامي. لكنّه بالمستوى السياسي الآن ولمدّة قد تطول، سيكون لزاماً على حركة حماس تجديد نفسها، وترميم خطابها، والتكيّف كي يتمكّن شعب فلسطين من النهوض مجدّداً.