رغم أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تصل إلى نهايتها، حيث لا يعرف بعد المدى الذي سوف تصل إليه والنتائج التي سوف تسفر عنها في النهاية، فإن تساؤلات عديدة بدأت تفرض نفسها على الساحة، وأهمها التساؤلات الخاصة باليوم التالي للحرب.
أحد أهم هذه التساؤلات يرتبط بالعلاقة بين إيران وحركة حماس، وربما الفصائل الفلسطينية بشكل عام؛ إذ لا يبدو، وفقاً لمؤشرات عديدة، أن هذه العلاقة سوف تسير، بعد انتهاء الحرب، على النهج نفسه الذي كانت عليه قبل اندلاعها.
وقد انعكس ذلك بشكل واضح في الجدل الذي صاحب التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف، في 27 ديسمبر الجاري (2023)، في أعقاب العملية التي شنتها إسرائيل في العاصمة السورية دمشق وأسفرت عن مقتل القيادي في الحرس الثوري رضا موسوي. فقد قال شريف إن “عملية طوفان الأقصى كانت جزءاً من الانتقام لقاسم سليماني”، في إشارة إلى القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني الذي قُتل في عملية عسكرية أمريكية في بغداد في 3 يناير 2020، وتحل ذكراه الرابعة بعد أيام قليلة.
هنا، سارعت حركة حماس إلى الرد على ذلك، حيث أصدرت بياناً جاء فيه: “إننا أكدنا مراراً دوافع وأسباب عملية طوفان الأقصى، وفي مقدمتها الأخطار التي تهدد المسجد الأقصى”، مضيفة: “كل أعمال المقاومة الفلسطينية تأتي رداً على وجود الاحتلال وعدوانه المتواصل على شعبنا ومقدساتنا”.
هذا الموقف الذي سارعت حماس إلى تبنيه كان متوقعاً إلى حد كبير، وذلك لاعتبارات رئيسية ثلاثة: الأول، أن عدم الرد، أو حتى التأخر في الرد، كان سيجلب انتقادات وحملة جديدة على الحركة، تسعى إلى إضفاء وجاهة خاصة على اتهامها بـ”تنفيذ أجندات خارجية”، وهو اتهام قائم بالفعل وتتبناه إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
والثاني، أن هذه التصريحات كان مصدرها الحرس الثوري، وهو المؤسسة الإيرانية الرئيسية المسئولة عن إدارة العمليات الخارجية لإيران، والتي تحظى باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري في المنطقة، حيث تعد بمثابة “الذراع الطولى” لإيران في المنطقة، بدليل أن معظم الضربات القوية التي تعرضت لها إيران ركزت على هذه المؤسسة، على غرار الضربتين اللتين أسفرتا عن مقتل قاسم سليماني ورضا موسوي.
والثالث، أن الموقف الإيراني الأوّلى من الحرب الحالية أنتج مفاعيل مبكرة على الأرض، وفرض تأثيرات فورية على العلاقة مع حماس حتى قبل انتهاءها، لدرجة دفعت الأخيرة إلى المسارعة بكشف التناقض الذي اتسم به الموقف الإيراني وأنتجته تصريحات رمضان شريف، وعدم الانتظار حتى إلى حين صدور بيان إيراني ينفي ما جاء على لسان الأخير.
خطأ في الترجمة أم خطأ متعمد؟
كان لافتاً أن الرواية الإيرانية لما جاء على لسان المتحدث باسم الحرس الثوري رمضان شريف جاءت متباينة. فقد عاد شريف إلى تأكيد أن تصريحاته “أُسئ فهمها”، وروجت وسائل إعلام ومراقبون إيرانيون إلى أن “خطأ في الترجمة” كان السبب في ذلك.
لكن تصريحات قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي كشفت أنه لم يكن هناك مجال لسوء الفهم أو خطأ في الترجمة لتصريحات شريف. إذ قال سلامي في هذا الصدد: “إن متحدث الحرس الثوري (في إشارة إلى رمضان شريف) قال إن عملية طوفان الأقصى جاءت انتقاماً لاغتيال الفريق قاسم سليماني، وبدوري أريد أن أقول إن هذين الموضوعين منفصلان عن بعضهما، أي أن طوفان الأقصى مستقل عن حركتنا للانتقام من اغتيال قاسم سليماني، الذي سيكون الثأر له في ظرف خاص، وفيه سنتعامل مع من أوعز وارتكب الواقعة”.
هنا، فإن تساؤلات عديدة تطرح نفسها: هل ارتكب المتحدث باسم الحرس الثوري خطأ بالفعل بتصريحاته التي ربط فيها بين اغتيال سليماني وعملية “طوفان الأقصى”، رغم الخبرة الكبيرة التي يمتلكها، منذ توليه منصبه في عام 2006، أم أن المسألة تدخل في إطار عملية “تقسيم أدوار” أو توجيه رسائل مزدوجة في أكثر من اتجاه؟
صحيفة “فرهیختگان” الإيرانية حاولت الرد على هذا التساؤل، وفقاً لرؤيتها لتفسير ما حدث، عندما نشرت مقالاً، في 30 ديسمبر الجاري، للكاتب صادق إمامي، بعنوان “تدربوا على الصمت في بعض الأحيان”، جاء فيه أن تصريحات رمضان شريف فرضت على إيران كُلفة عالية، وأجبرت حماس على التشكيك الفوري فيها، مطالباً بعزل المتحدث باسم الحرس الثوري، ومشيراً إلى أخطاء سبق أن ارتكبها مسئولون محسوبون على الحرس وأنتجت عواقب عديدة على إيران.
هنا، فإن المعنى المباشر لذلك لا يكمن في تقديم إيران للدعم لحلفائها أو وكلائها في المنطقة، وإنما في الجهر بهذا الدعم، الذي يوفر فرصاً لخصوم طهران من أجل شن حملة ضدها وربما جرها تدريجياً للانخراط في الحرب، وهو ما يفسر دعوة كاتب المقال لبعض المسئولين بـ”الصمت” بدلاً من الكلام الذي يجلب على إيران انتقادات وتداعيات سلبية هى في غنى عنها.
لكن ذلك لا ينفي أنه قد يكون للرواية جزء آخر، يتعلق بأن ما حدث لم يكن خطأ أو تصريحات أُسئ فهمها، وأنه كان أشبه برسالة مضادة في اتجاه مختلف. وهناك من الأسانيد ما يمكن أن يدعم ذلك، منها أن هذه التصريحات كانت محاولة من جانب إيران للتلميح إلى أن لديها القدرة بدورها على رفع كُلفة العمليات العسكرية التي تقوم إسرائيل بشنها ضد مواقعها في بعض دول الأزمات، ولا سيما سوريا، وكان آخرها العملية التي أدت إلى مقتل رضا موسوي، الذي وصفه الإعلام الإيراني بأنه الذراع اليمنى لقاسم سليماني، وحظى دوره باهتمام خاص من جانب القيادة الإيرانية، لدرجة أن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي نفسه أمّ صلاة جنازته في العاصمة طهران.
ولا يمكن استبعاد أن يكون ذلك قد جاء في سياق ما يمكن تسميته بـ”الحرب الخفية” التي تدور رحاها بين إيران وإسرائيل، والتي تتضمن هجمات سيبرانية وعمليات اغتيال واستهداف سفن ومصالح اقتصادية وغيرها. كما أن ذلك جاء بعد التحركات التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، سواء لردع إيران ووكلاءها عن توسيع نطاق الحرب الحالية التي تدور في قطاع غزة، أو لصد الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية ضد السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل، أو للتلميح بإمكانية معاقبة إيران عبر عرقلة تنفيذ الشق الثاني من صفقة تبادل السجناء التي أبرمت في 18 سبتمبر الماضي، وتضمنت الإفراج المتبادل عن سجناء إيرانيين وأمريكيين، وهو الشق الخاص بحصول إيران على 6 مليار دولار التي تمثل مستحقاتها لدى كوريا الجنوبية والتي تم الإفراج عنها ونقلها إلى مصارف إيرانية في قطر، حيث ستقوم إيران باستخدامها للإنفاق على شراء أدوية وسلع غذائية. وربما يكون ذلك مرتبطاً بمحاولة إيرانية مسبقة لتحذير حماس نفسها من مغبة التفكير في حدود علاقتها مع إيران في مرحلة ما بعد “سكوت النيران”.
اليوم التالي
إن كل ما سبق يطرح دلالة رئيسية مهمة تنصرف إلى أن ما بعد حرب غزة سوف يكون مختلفاً عن ما قبلها بالنسبة للعلاقة بين إيران وحماس. فقد تبينت الأخيرة من الموقف الإيراني الأوّلي إزاء الحرب التي تشنها إسرائيل منذ 7 أكتوبر الماضي، الحدود التي يمكن في سياقها الاعتماد على إيران كظهير إقليمي. ذلك لا يعني أن حماس سوف تجري تغييرات كبيرة في سياستها إزاء تلك العلاقة، خاصة أن خياراتها الإقليمية ربما لن تكون متعددة في المرحلة المقبلة، وإنما يعني أنها ستضع في اعتبارها أن لإيران حسابات خاصة تدفعها في كثير من الأحيان إلى التصرف بشكل قد لا يتوافق بالضرورة مع تصورات الطرف الآخر.