لم يصدر عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير شخصيا أي نفي، للتقارير الصحافية الإسرائيلية التي ذكرت أنه قام بزيارة إلى دولة الاحتلال وعقد اجتماعات غير معلنة مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، بُحثت خلالها إمكانية اعتماده كوسيط مع دول غربية وأخرى عربية «معتدلة» لإقناعها باستقبال لاجئين فلسطينيين من سكان قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.
وإذا كان تعبير «الهجرة الطوعية» هو التسمية المعلنة «المهذبة» التي تعتمدها دولة الاحتلال ضمن إطار ما يتردد من مشاريع لتوسيط بلير، فإن الأهداف الفعلية الواضحة تدور حول ما يشهده القطاع لتوه من عمليات طرد جماعية ضمن سياسة منهجية تستهدف التطهير العرقي وإفراغ المخيمات والبلدات والمدن من ساكنيها، تزامناً مع قصف جوي ومدفعي وصاروخي يتقصد التدمير الشامل للعمران، ولا يستثني المشافي والمدارس والأسواق العامة والمخابز ومنشآت الأمم المتحدة ذاتها.
ومن المنطقي ألا يُعتد كثيراً بالتوضيح الذي صدر أمس عن «معهد توني بلير للتغيير العالمي»، وهي مؤسسة استشارات يديرها بلير، وأمس الأول عن «مصدر مقرب» منه، وانطوى على نفي لما أوردته القناة 12 الإسرائيلية بصدد اجتماعات بلير السرية، مع تأكيد بأن الأخير لم يناقش هذا الاقتراح ولن يناقشه أيضاً. المرجح في المقابل هو أن سوابق بلير في التسويف والمخادعة والمراوغة تشهد على سلوكيات معاكسة تماماً، قبل تلفيق الملف المزعوم عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وخلال زج بريطانيا في الاجتياح الأمريكي للعراق، وصولاً إلى أنماط الانحياز الفاضح لصالح دولة الاحتلال خلال توليه مهامّ المبعوث الدولي حول النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وبعد ساعات قليلة أعقبت تسميته كممثل للرباعية، التي تألفت في حينه من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا، صرّح إيهود أولمرت رئيس وزراء الاحتلال يومذاك بأن بلير «صديق حقيقي لدولة إسرائيل» ولم يكن يبالغ ولا يضيف جديداً إلى حقيقة كانت ساطعة وهكذا تظل حتى اليوم، واعتاد بلير على التفاخر بها علانية. ذلك لأن مقاربة بلير للمسألة الفلسطينية لم تنطلق أبداً من حقائق الاحتلال والاستيطان والعنصرية، بل من زعم مسبق بأن الجانب الفلسطيني متعنت يرفض التنازل، ويعجز عن الاقتداء بنموذج التسوية السياسية في إيرلندا الشمالية. وإلى بلير تُنسب الجملة الشهيرة: «ضمن اعتبارات عديدة لا يتوجب على الشرق الأوسط أن ينظر إلى إسرائيل كعدو، بل كنموذج يُحتذى».
ولا يصح أن تُستثنى أيضاً الأدوار التي لعبتها مؤسسة الاستشارات التي يديرها «معهد توني بلير للتغيير العالمي» لصالح ملفات عديدة خدمت وتخدم دولة الاحتلال، وتحديداً من خلال التواطؤ مع السلطات الإسرائيلية عبر مكتبها المفتوح دائماً في القدس المحتلة، ولن يكون طارئاً على هذه المؤسسة أن تباشر دور شراكة جديداً في حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. وبذلك فإن لقاءات بلير السرية مع أمثال نتنياهو وغانتس لم تكن أقل من اجتماعات «بزنس» تتوخى عقد صفقات التهجير القسري والتطهير العرقي في قطاع غزة، الآن وقد عاد إلى الساحة رئيس المؤسسة نفسه، كوسيط أقرب إلى شخصيته الأثيرة كتاجر حروب.