يفسر الخطاب السياسي الإسرائيلي، اهتمام الرئيس الأمريكي بايدن بطريقة إدارة حرب غزة، ورغبته في عدم تحولها إلى مواجهة إقليمية متعددة الجبهات، بأن ذلك يعود إلى اعتبارات تتعلق بحماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، التي تشمل في الوقت الحالي ثلاثة مشاريع رئيسية أولها إبعاد السعودية عن المحور الصيني – الروسي ـ الإيراني، عن طريق إنجاز صفقة التطبيع مع إسرائيل. الثاني، هو التقدم على طريق إقامة الممر الاقتصادي، الذي تم إعلانه في قمة مجموعة العشرين الأخيرة في نيودلهي. المشروع الثالث هو تدفئة العلاقات مع تركيا، وإبعادها عن المحور الروسي – الصيني، وهو ما يلتقي مع مصلحة واشنطن في تعزيز قوة حلف الأطلنطي.
هدف إسرائيل أن تكون حرب غزة المحطة النهائية لتصفية القضية الفلسطينية سياسيا، وتحويلها إلى مجرد قضية إنسانية. وإنهاء الحديث عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة
حقيقة الأمر في هذا التفسير هو أن إسرائيل نفسها هي صاحبة المصلحة الأولى في هذه المشروعات الجيوستراتيجية الثلاثة؛ فهي المستفيد الأول من التطبيع مع السعودية، لأنها تعتبره المحطة الأخيرة لتصفية القضية الفلسطينية سياسيا، وإقامة تحالف استراتيجي بينها وبين ما يُطلق عليه «الدول العربية السنية». كما أنها المستفيد الأول من مشروع الممر الاقتصادي من الهند إلى شرق البحر المتوسط والاتحاد الأوروبي. هذا المشروع في حقيقة الأمر هو إنتاج إسرائيلي خالص، طرح فكرته وطورها وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي يسرائيل كاتس. أما المشروع الثالث المتعلق بتدفئة العلاقات مع تركيا، فهو أيضا طموح إسرائيلي خالص، يهدف إلى تعظيم الفوائد من استثمار مكامن الغاز الطبيعي في قاع حوض شرق البحر المتوسط، وإيجاد طريق أسهل وأقرب إلى شرق أوروبا، والانفتاح على سوق السلاح التركية، والتلاعب بكل من السعودية وتركيا كدولتين تتنافسان على قيادة العالم الإسلامي السني، وإضعاف التضامن التركي مع المقاومة الفلسطينية، وإبعاد تركيا عن المحور الروسي – الإيراني. ورغم ذلك فإن إسرائيل تستخدم تفسيرها للخلافات مع الولايات المتحدة وسيلة لإضعاف الخطاب السياسي الأمريكي بشأن إدارة الحرب، والتعامل مع عنف المستوطنين، ومحاولة تخفيف التوتر على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. ويكشف الحديث عن وجود خلافات كيف تسعى إسرائيل إلى توجيه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بما يجعل مصالح إسرائيل هي المتغير المستقل، والمصالح الأمريكية هي المتغير التابع. والحقيقة أن الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط تعاني من أسباب عميقة لانعدام المصداقية، لأنها إذا كانت صادقة في منع أو تخفيض خسائر المدنيين في حرب غزة، أو عدم تحولها إلى حرب إقليمية، لكانت قد أوقفت، أو فرضت شروطا على إمداد إسرائيل بالأسلحة والذخائر والتمويل والالتزام بحمايتها.
زيارة بلينكن تحت المجهر
تحتل زيارة وزير الخارجية الأمريكي الأولى للشرق الأوسط هذا العام، مكانة مهمة على خريطة التنسيق الأمريكي- الإسرائيلي في الشرق الأوسط، وتمثل اختبارا لعلاقة أمريكا بالمنطقة ككل، حيث إنها ترتبط فعليا بمقدمات حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتأتي بعد أن عادت إسرائيل إلى تكثيف الضربات الجوية القاسية على غزة، رغم الانسحاب الجزئي للقوات البرية، والحديث عن ترتيب الأوضاع هناك بعد الحرب. كذلك تخيم على الزيارة غيوم التصعيد في جنوب لبنان، وحرب الاغتيالات الإسرائيلية ضد قيادات حماس والحرس الثوري الإيراني، إضافة الى التعقيدات التي تواجهها أمريكا في تشكيل قوة بحرية دولية في البحر الأحمر تحت غطاء ردع الحوثيين. ويوجد اتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل على قضيتين عاجلتين: الأولى هي الحاجة إلى تخفيض قدرات حماس العسكرية في غزة، بعد التراجع الفعلي عن هدف القضاء عليها. الثانية هي الحاجة لتعزيز قدرات الجيش اللبناني، بحيث يحل محل قوات حزب الله على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. لكن توجد بينهما خلافات تتعلق بكيفية تحقيق كل من الهدفين؛ إضعاف حماس، وإبعاد حزب الله. الخلافات بالنسبة لحرب غزة تتعلق فقط بدرجة الكثافة النيرانية المطلوبة لإضعاف حماس، ولا يحتاج تحقيق ذلك أن تصدر واشنطن بيانات تطالب فيها إسرائيل بذلك، وإنما يكفي أن تمنع عنها الإمدادات بالقذائف والصواريخ والبنادق الآلية. وتتفق كل من تل أبيب وواشنطن على ضرورة إدارة الخلافات بما لا يؤثر سلبا على أهداف الأمن القومي لكل منهما، والأنظمة الحليفة لهما في المنطقة.
وترى إسرائيل أن بقاء «حماس» قوية بعد الحرب يعني تعزيز قوة ما يسمى «الشرق الأوسط الإسلامي»، الذي يهيمن عليه الإخوان المسلمون وأنصار إيران في المنطقة. ويمثل إثارة الخوف من هذا التطور، المحرك الأول للدبلوماسية الإسرائيلية الهادفة إلى حصار حماس إقليميا وإضعافها محليا. هدف إسرائيل النهائي هنا هو أن تكون حرب غزة المحطة النهائية لتصفية القضية الفلسطينية سياسيا، وتحويلها إلى مجرد قضية إنسانية. وإنهاء الحديث عن إزالة الاحتلال والحصار، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
رؤية نتنياهو
وقع نتنياهو فعليا في مصيدة عدم المصداقية، وانهيار الثقة بينه وبين كل من حوله تقريبا، إلى الدرجة التي جعلته يقترح إخضاع الوزراء الذين يشاركون في جلسات حكومة الحرب إلى «اختبار الكذب»، للحد من التسريبات التي تكشف وجود تشققات كبيرة داخل الحكومة، أهمها وجود انقسام حاد بين الحكومة السياسية والمؤسسات العسكرية والأمنية، حيث بدأ كل منهما هجوما لتحميل الطرف الآخر مسؤولية الفشل في تحقيق أهداف الحرب. ويرفض نتنياهو حتى الآن الاعتراف بعجز إسرائيل عن تحقيق أهداف الحرب، التي أعلنها هو بنفسه، معتقدا أن استمرار تدفق المساعدات العسكرية الأمريكية يساوي القدرة على استمرار القتال. وهو في ذلك ينكر حقيقة تخفيض القوات في غزة، هروبا من الخسائر البشرية، وأن الولايات المتحدة سحبت حاملة الطائرات «جيرالد فورد» من مهمة توفير قوة الردع ضد خصوم إسرائيل في المنطقة، كما أرسلت الحاملة الثانية «أيزنهاور» إلى البحر الأحمر وبحر العرب. ولم يفهم نتنياهو بعد مضمون الرسالة الأمريكية بشأن لبنان، أو ربما هو يتعمد بشكل غير مباشر تحديه لها وتصعيد المواجهة العسكرية مع حزب الله.
في مقاله المنشور على موقع صحيفة «جيروساليم بوست» في الخامس من الشهر الحالي قال نتنياهو، إن «اليوم التالي» في غزة يبدأ مع نهاية حماس وليس قبل ذلك. كما رسم خطة لإعادة ترتيب الأوضاع في غزة، ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية، هي «تدمير» حماس، وجعل غزة منزوعة السلاح، واجتثاث ثقافة وروح المقاومة. وهي أهداف تعني حربا بلا نهاية، بلا يوم تال! ولفهم ما جاء في تفاصيل خطة نتنياهو، يجب علينا قراءة مقال كتبه مئير بن شبات رئيس هيئة الأمن القومي الإسرائيلي السابق إلى صحيفة «إسرائيل اليوم»، في الخامس من الشهر الحالي، يقول فيه إن الانتصار الحقيقي لإسرائيل في حرب غزة ليس الآن، وإنه لا يتحقق إلا بعد بناء مجموعة حقائق جديدة، أهمها نزع سلاح حماس، وإنهاء نفوذها على الأرض، والسيطرة تماما على الحدود والمعابر الحدودية، بما في ذلك محور فيلادلفيا – صلاح الدين ومعبر رفح. ويتطلب نزع سلاح حماس كما يقول بن شبات تدمير الأنفاق، باعتبارها مناطق عمليات عسكرية، وأن من يوجد فيها يكون هدفا عسكريا يجب تدميره. هذا يتضمن صراحة منع عودة سكان مدينة غزة ومدن ومخيمات القطاع حتى يتم تطهيرها تماما من الأنفاق، بل وإجبارهم على النزوح بعد تهديدهم بالإبادة في حال بقائهم، بحجة استمرار حرب الأنفاق. أما إنهاء نفوذ حماس تماما في مجالات إدارة الأمن وتوزيع المساعدات الإنسانية، فإنه يتطلب حسب بن شبات إبعاد أفراد شرطة حماس وموظفيها عن عمليات إدارة المساعدات الإنسانية، لأن هذا يمكنها من بسط نفوذها، وإعادة تثبيت مراكزها، مهما كانت الجهة التي تتولى إدارة قطاع غزة رسميا. ما قاله بن شبات بالنسبة للحدود والمعابر بما فيها محور فيلادلفيا ومعبر رفح في جنوب غزة، إضافة للحدود الشمالية والشرقية يعني عمليا استمرار الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، مهما كانت الصيغة الرسمية لإدارته بعد انتهاء الحرب. ورغم التشققات داخل الحكومة الإسرائيلية، فإنها تبدي حرصا كبيرا على إدارة الخلافات مع البيت الأبيض، على أرضية مصلحتها في تصفية القضية الفلسطينية سياسيا، وتحويلها إلى قضية إنسانية، وخلق تصدع سياسي داخل لبنان بالدعوة إلى إحلال الجيش اللبناني على حدودها الشمالية مع لبنان، وإبعاد قوات حزب الله اللبناني إلى ما وراء نهر الليطاني، حتى يصبح مجرى النهر هو الحاجز الطبيعي الذي يحمي شمال إسرائيل من ضربات حزب الله أو يقلل تأثيرها. ومن أجل تليين الموقف الأمريكي لمصلحتها، تتعمد إسرائيل توجيه رسالة ابتزاز إلى البيت الأبيض تفيد بأن قوة ومصداقية التحالف مع إسرائيل هو المعيار الرئيسي لمصداقية الولايات المتحدة كحليف إقليمي لأصدقائها في الشرق الأوسط، وإلا فإنهم سيفقدون الثقة فيها ويلجؤون للبحث عن حليف ذي مصداقية مثل الصين وروسيا أو حتى إيران.