يعتمد النظام الإيراني سياسية براغماتية تتميز بالتعامل الجدي مع الإمكانيات الذاتية التي يتمتع بها وتوظيفها لما يخدم مصالحه الدولية والإقليمية وتحديد مكانته ضمن المحور العالمي وتصعيد حالة المواجهة مع جميع الجهات الدولية وصولاً إلى اعتماده قوة إقليمية مؤثرة في منطقة الشرق الاوسط والوطن العربي، ويعمل بشكل مستمر على تحقيق الفائدة السياسية من أي متغيرات في المنطقة او حالة من المواجهة بين أطراف الصراع داخل أروقة الساحة العربية كما يحدث الان في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023 وتحديد أولويات الفائدة الأمنية والمكسب السياسي الذي يمكن له أن يجعله في مأمن من جميع التطورات التي قد تحصل في المنطقة بعد الإنتهاء من العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية.
يعتمد النظام الإيراني مفهوماً عسكرياً وسياسياً يتمثل في التمسك بعقيدة الدفاع الإيراني التي توصف بالعقيدة الهجينية وتمزج بين جميع أدوات القوة والإكراه بأسلوب التفاعل بين الأنماط النظامية وغير النظامية للقتال مع ابقاء أراضيها بعيدة عن الصراع نفسه، أي أنها تباشر المواجهة عبر أراضي أخرى تتمتع فيها بنفوذ سياسي وأمني ولديها وكلاء وفصائل مسلحة تقاتل عنها وتحافظ على مشروعها في التمدد والهيمنة وتحقيق الغايات والأهداف الإيرانية بما لا يصيب الميدان الإيراني بأي أضرار بشرية ومادية، وهي السياسة التي تبتعد فيها عن حافات حدودها وتجعل أي مواجهة خارج نطاق ما يضر بأمنها القومي ويساهم في الحفاظ على قوتها العسكرية وعدم الدخول في مواجهات غير معروفة العواقب وهي ما أعلنت عنه القيادات العسكرية والأمنية التابعة لفيلق القدس والحرس الثوري بعد اندلاع المواجهات في غزة والاكتفاء بالمساندة والدعم الإعلامي والتصريحات الرسمية التي تساند الشعب الفلسطيني دون أن تُقدم على المشاركة الفعلية كما كانت تعلن وتهدد.
وياتي في سياق هذه المفاهيم السياسية والعسكرية، التوجه الإيراني الذي أقدم عليه في تَفقد المرشد الأعلى علي خامنئي للمعرض الخاص بأحدث إنجازات القوات الجوفضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني في 19 تشرين ثاني 2023 والذي تم خلاله الاعلان عن إنتاج صاروخ إيراني نوع ( فرط صوت) بأسم فتاح 2 وهو النسخة الثانية من الصاروخ الذي تم الكشف عنه في حزيران 2023، وهو رسالة موجهة بشكل علني تؤكد استمر إيران في برنامج الصواريخ البالستية وعملية التطور النوعي فيه واستخدام افضل التقنيات الفنية التي توصلت إليها القوات العسكرية الإيرانية في إنتاج هذا الصاروخ الذي يبلغ مداه 1400كم ويفوق سرعته خمس إضعاف سرعة الصوت وبإمكانه الانطلاق خارج الغلاف الجوي والعودة اليه مرة أخرى ولديه القابلية للوصول إلى داخل إسرائيل، بسبب ان رادارات الدفاعات الجوية الإسرائيلية لا تتمكن من التقاطه لأنها مُعدة لرصد الصواريخ البالستية، وهذا الصاروخ من نوعية صواريخ الكروز ذات الرأس المنزلق المسمى ( HGV)، وأما الرسالة الثانية فهي للتخفيف من حدة التهديدات الأمريكية الإسرائيلية بعد عدة محاولات تمت خلالها عمليات قصف لمواقع الحرس الثوري الإيراني ووكلائه في سوريا والإشارة إلى إمكانية استخدام صاروخ فتاح 2 ضد القواعد والمعسكرات التابعة للقوات الأمريكية والتحالف الدولي في العراق.
جاءت عملية التقدم في إنتاج الصواريخ فرط الصوت التي تتمتع بتقنية عالية وبقدرة نوعية بعد أحداث غزة ولتحقق إيران مكاسب أخرى في قطاع مهم أخر يعالج النقص في الاحتياجات الرئيسية والتسليحية للجيش الإيراني وتعلن ان بإمكانها أن تساهم في تغيير قواعد السياسة ضمن الإطار الذي تجري عليه عملية المواجهة في قطاع غزة، وهو ما أعلنه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بتاريخ 22 تشرين ثاني 2023 في العاصمة اللبنانية (بيروت) مهدداً ( أن إيران لم تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يحدث بحق المدنيين في غزة) ولكن هذا التهديد لم يأخذ مداه على الأرض ولم تشارك وحدات الصواريخ البالستية والفرط صوتية في ضرب أي هدف إسرائيلي وإنما اكتفت إيران بالاقوال والتنديد فقط.
تزامن الاعلان عن الصاروخ فتاح 2 مناورات بحرية للقوات الإيرانية والحرس الثوري جنوب البلاد في 21 تشرين ثاني 2023 وهي المناورات الثانية التي تجري خلال شهر، ثم الكشف عن منظومة الدفاع الصاروخي المستقلة ( مهران) وهو النظام القادر على مواجهة أنواع الأهداف الجوية ويبلغ مداه (320) كم وإطلاق طائرة شاهد (147) المسيرة وهي أحدث انجازات القوة الجيو فضائية التابعة للحرس الثوري ويبلغ طول جناحها ( 26) م وقادرة على التحليق بمسافة (60) الف قدم وتغطي مسافة أكثر من (1000) كم، ولم تعلق او تتخذ الأطراف الدولية والإقليمية أي موقف حيال هذه التطورات الإيرانية بسبب سياسة عدم التصعيد التي لا زالت مستمرة فيها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه النظام الإيراني وأبقت الحالة كما هي في عدم توسيع دائرة المواجهة بين الطرفين والالتزام بسياسة الابقاء على القتال في المدن الفلسطينية.
ان الملاحظة التي يمكن أن تسجل على عملية التطور الذي أعلنته إيران بخصوص برنامج الصواريخ انه تأكيد على استمرارها في الامتناع عن ادراج هذا البرنامج في أي مفاوضات قادمة مع الإدارة الأمريكية وحلفائها الأوربين فيما يتعلق بالحوار الخاص بالبرنامج النووي الإيراني والاستمرار في تنويع الانتاج من هذه الصواريخ وبكفاءة واضحة، حيث تعد صواريخ فتاح 2 الفرط صوتية جزء من ترسانة الصواريخ البالستية التي طورها الحرس الثوري على مدار السنين الماضية، وتعبر إيران الأن هي الأولى في منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك هذه التقنية والرابعة عالمياً بعد أمريكا وروسيا والصين، وهو ما يعطي دلالة إشارة لرفع معنويات الوكلاء ومقاتلي الفصائل المسلحة التابعين للحرس الثوري في استمرار تنفيذهم للعمليات والأهداف المنتخبة والتي تحدد لهم من قبل قيادات الحرس الثوري.
جميع هذه الملاحظات تندرج ضمن سياق المكاسب التي يستمر النظام الإيراني في جنيها بعد أحداث السابع من تشرين الأول 2023 معتمداً التطور في البرنامج الصاروخي أحد الضغوط السياسية والعسكرية تجاه أي تحول قادم في المنطقة وأي مفاوضات لانهاء العقوبات الاقتصادية الدولية عنه والحصول على ما تبقى من الأموال المجمدة في كوريا المجمدة بعد صفقة السجناء واستمرار سياسته البراغماتية في عدم التدخل المباشر بالأحداث القائمة في غزة.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية