عصمت إينونو رئيس تركي أتقن خمس لغات وترأس عشر حكومات

عصمت إينونو رئيس تركي أتقن خمس لغات وترأس عشر حكومات

عصمت إينونو الرئيس الثاني للجمهورية التركية الحديثة، والرجل الثاني بعد مصطفى كمال أتاتورك، الذي عمل على إرساء دعائم الدولة التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.

كان رجلا عسكريا من طراز فريد، يحفل سجله بانتصارات عديدة في “حروب الاستقلال”. ثم صار دبلوماسيا محنكا في مشاورات تركيا مع كل من اليونان والدول الأوروبية من أجل تأمين الحدود التركية وتمتين علاقاتها مع أوروبا والعالم. ونجح في تحييد تركيا ومنعها من الانزلاق في مستنقع الحرب العالمية الثانية.

ولمع نجمه السياسي في توليه عشر حكومات خلال عمره الذي امتد 89 عاما، ثم تربعه على كرسي الرئاسة التركية مدة 12 عاما، وتزعمه لحزب الشعب الجمهوري على مدى نصف قرن من الزمان.

المولد والنشأة
وُلد مصطفى عصمت حاج رشيد إينونو يوم 24 سبتمبر/أيلول 1884 في مدينة إزمير الواقعة في أقصى غرب تركيا، وكان والده رشيد (بالتركية “رشيت باي”) من “بتلسلي كرموغولاري”، ثم انتقل إلى ملاطية، أما والدته “سيفيريا” -أو “جويرية هانم”- فكانت من منطقة “ديليورمان” في بلغاريا.

تزوج عصمت إينونو من “مهيبة هانم” عام 1916 في إسطنبول، فأنجبت له 4 أطفال هم عزت وعمر وإردال وأوزدن، وتوفي أحدهم خلال حرب الاستقلال.

الدراسة والتكوين العلمي
درس إينونو المرحلة الابتدائية في مدرسة سيفاس العسكرية (الابتدائية) عام 1895، ثم التحق بمدرسة المدفعية العثمانية (المدرسة الإمبراطورية للهندسة العسكرية) في إسطنبول عام 1901 وتخرج منها برتبة ضابط عام 1903.

وكان يتقن العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية إضافة إلى التركية.

التجربة العسكرية
خدم في هيئة الأركان العامة للفيلق الرابع، الذي أرسل إلى اليمن تحت قيادة أحمد عزت باشا، وتمت ترقيته إلى رتبة رائد ليصبح رئيس الأركان في الإدارة العسكرية اليمنية في عام 1912. وهناك تولى مسؤولية مفاوضات السلام مع الإمام يحيى، وهي أول مهمة (دبلوماسية) دائمة.

كان في كاتالكا خلال حرب البلقان الأولى، وشغل منصب رئيس عمليات الأركان في القيادة العليا خلال الحرب العالمية الأولى وأصبح مقدما في عام 1914. وفي العام التالي، رقي إلى رتبة عقيد، وعين في منصب رئيس أركان الجيش الثاني في تراقيا.

في وقت لاحق خدم في الجبهة الشرقية، وفي حملة سيناء وفلسطين، وخلال هذه الفترة عمل مع قائد الجيش الثاني مصطفى كمال، حيث أقام معه علاقة صداقة وثيقة وحصل منه على تسجيل مفيد وهام عام 1917.

أصبح وكيل وزارة الحربية عام 1918 عندما عاد إلى العاصمة خلال اتفاقية هدنة موندروس، حيث كان يعمل في المجلس العسكري الأعلى. وفي هذه السنوات توطدت صداقته مع أتاتورك.

بعد انتخابه ممثلا لأدرنة، تمكن من تأسيس جيش نظامي باعتباره قائدا للقوات المسلحة، لكن حكومة إسطنبول العثمانية حكمت عليه بالإعدام في يونيو/حزيران 1920.

ثم تم تعيينه لقيادة الجبهة الغربية في 4 مايو/أيار 1921، وفاز في معركتي إينونو الأولى والثانية. رقي فيما بعد إلى رتبة جنرال، وأصبح يعرف باسم عصمت باشا، ولعب دورا مهما في معركة سكاريا ودوملوبينار عام 1922.

عصمت إينونو (وسط) أصبح أول رئيس وزراء لجمهورية تركيا بعد إعلان تأسيسها عام 1923 (غيتي)
التجربة السياسية والدبلوماسية
بعد انتصارات الجيش التركي في حرب الاستقلال اضطرت اليونان إلى الانسحاب. وتقرر إقامة مشاروات التفاوض في بلدة مودانيا في مدينة بورصة التركية بين 3 و11 أكتوبر/تشرين الأول 1922، حيث كان إينونو رئيس الوفد المفاوض فيما سمي بـ”هدنة مودانيا”.

بعد نجاح مشاورات مودانيا انتقل الطرفان للاجتماع في لوزان بسويسرا، حيث كان إينونو مهندس المشاوارات فيما عرف بـ”معاهدة لوزان”، وجعل جميع الأطراف المفاوضة تعترف باستقلال تركيا بشكل رسمي بتاريخ 23 يوليو/تموز 1923.

بعد إعلان تأسيس جمهورية تركيا بتاريخ 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923 أصبح عصمت إينونو أول رئيس وزراء لجمهورية تركيا، وبقي في منصبه إلى عام 1938، وشكّل 10 حكومات على النحو التالي:

الحكومة الأولى: 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923 وحتى 6 مارس/آذار 1924.
الحكومة الثانية: 6 مارس/آذار 1924 وحتى 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1924.
الحكومة الثالثة: 3 مارس/آذار 1925 وحتى 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1927.
الحكومة الرابعة: 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1927 وحتى 27 سبتمبر/أيلول 1930.
الحكومة الخامسة: 27 سبتمبر/أيلول 1930 وحتى 4 مايو/أيار 1931.
الحكومة السادسة: 4 مايو/أيار 1931 وحتى 1 مارس/آذار 1935.
الحكومة السابعة: 1 مارس/آذار 1935 وحتى 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1937.
ثلاث حكومات متعاقبة بعد انقلاب 1960 العسكري، وذلك بين 1961 وحتى 1965.

في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1938 توفي كمال أتاتورك، وبتاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه جرت انتخابات للرئاسة داخل البرلمان التركي وأصبح عصمت إينونو رئيس تركيا بنسبة تصويت مطلقة.

بتوليه رئاسة الجمهورية التركية، أعلن عصمت إينونو نفسه “زعيما قوميا” (قائد الملّة)، بتاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول 1938، وذلك خلال اجتماع لحزب الشعب الجمهوري، الحزب الوحيد الموجود في ذلك العهد الذي حكم تركيا من عام 1923 إلى 1950، فيما أعلن أتاتورك “زعيما أبديا”.

وتم في ذلك الاجتماع تعديل النظام الداخلي للحزب، بحيث نصّت المادة الرابعة بأنه “يمكن أن يتنحى عصمت إينونو عن رئاسة حزب الشعب الجمهوري ضمن ثلاث شروط: الوفاة أو المرض الشديد أو الاستقالة”.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وشدّة الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي انهالت على تركيا، رأى إينونو أنه يجب الرجوع إلى عهد الديمقراطية من أجل إرجاع التنمية السياسية والاقتصادية لتركيا، وبتاريخ 19 مايو/أيار 1945 أعلن في خطاب له للشباب التركي، بأنه قد حان الوقت لإعطاء الإرادة الشعبية والعملية الديمقراطية نصيبها من جديد.

بعد هذا التاريخ قرر البرلمان التركي إجراء أول انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب بتاريخ 21 يوليو/تموز 1946، وظهر فيها “الحزب الديمقراطي” كأول حزب معارض بـ64 نائبا، ولكنه انتزع الأغلبية في انتخابات عام 1950، وبذلك أصبح حزب الشعب الجمهوري بقيادة عصمت إينونو لأول مرة حزبا معارضا، وأصبح رئيس الحزب الديمقراطي جلال بايار رئيسا لتركيا.

عصمت إينونو في ثلاثينيات القرن العشرين (غيتي)
عاد إينونو إلى الحياة السياسية بعد انقلاب 1960 ضد رئيس الوزراء عدنان مندريس، وشغل منصب رئيس الوزراء في ثلاث حكومات بين 1961 و1965.

بقي رئيسا لحزب الشعب الجمهوري حتى عام 1972، عندما صوّت الحزب في اجتماع عام لصالح بولنت أجاويد رئيسا، فاستقال عصمت إينونو من الحزب الذي قاده 49 عاما بين رئيس ونائب للرئيس.

وخلال رئاسته كان له دور بارز في إلغاء السلطنة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، ومشى وتابع خطى أتاتورك في العلمانية والقومية وتغريب الحرف التركي وحظر الأذان باللغة العربية، أزال صورة أتاتورك عن العملة التركية ووضع صورته بدلا منها.

الوفاة
وفي 25 ديسمبر/كانون الأول 1973 توفي عصمت اينونو؛ وريث مصطفى أتاتورك، والرئيس الثاني للجمهورية التركية. ودفن مقابل ضريح أتاتورك في أنيتكبير في أنقرة وبني صرح كبير على قبره.