إسرائيل والعدالة الدولية

إسرائيل والعدالة الدولية

إن نقطة قوة جرّ إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية تكمن بأنها جاءت من قبل دولة لا تنتمي إلى “الأمة العربية” ولا إلى “الأمة الإسلامية”، وفضلا على ذلك تعترف بإسرائيل، ولا يوجد اسمها في لائحة معاداة السامية.

لسنا من المتوهمين بمحكمة العدل الدولية، ولا يخفى علينا بأنها جزء من مؤسسة شرعت بفرض حصار ظالم ووحشي من قبل مجلس الأمن على جماهير العراق مدة ثلاثة عشر عاما بحجة معاقبة نظام صدام حسين لاحتلال الكويت. وحينها قالت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في مقابلة مع إحدى القنوات الأميركية بأنه يستحق موت أكثر من 200 ألف طفل عراقي بسبب نقص الغذاء والدواء، ردا على سؤال محاورها: هل يستحق هذا العدد من الضحايا ثمنا لسياسة أميركا تجاه العراق؟

لم تتحرك حينها محكمة العدل الدولية، ولا بعد غزو العراق واحتلاله وقتل الآلاف من جماهير العراق تحت عنوان نشر الديمقراطية، بعد فشل إثبات امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل أو أن لديه صلة بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001. هذا غيض من فيض، فملفات جرائم أميركا وعموم الغرب لا تعد ولا تحصى في أفغانستان وفيتنام وكوسوفو والبلدان الأفريقية، ومع هذا لم تحرك محكمة العدل الدولية ساكنا.

وبشكل آخر نقول إن جرائم إسرائيل ليست بجديدة ضد الفلسطينيين، حرب الإبادة التي تشنها اليوم في غزة تجري على قدم وساق منذ أكثر من سبعة عقود ونصف العقد، إلا أن الجديد هذه المرة، أن الولايات المتحدة فشلت في منع وصول ملف الدعوى المقامة بحق إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، وتعكس هذه الحالة انحسار النفوذ السياسي للولايات المتحدة في العالم، والتي تعكس ضعفها أيضا بالسيطرة على المؤسسات الدولية.

◙ جزء العالم المتوهم بواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط التي تسمّى إسرائيل، بات ينظر اليوم بأم عينيه كم كان مخدوعا بالرواية الإسرائيلية التي صورت الفلسطينيين أنهم لا يستحقون الحياة لأنهم يكرهون إسرائيل

وهذا هو الفرق في حالة العراق في عقد التسعينات من القرن العشرين الذي أعلن حينها النظام العالمي الجديد بزعامة أكبر دولة بلطجة حتى غزوه واحتلاله ودون أيّ ترخيص من مجلس الأمن ولا أيّ مؤسسة دولية، وبين ما يحدث اليوم وتحديدا أمام محكمة العدل الدولية.

تجدر الإشارة إلى أن دفاع الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة عن إسرائيل، ونفي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن تهمة الإبادة الجماعية عنها، هما في الحقيقة دفاع عن سياستها، دفاع عن جميع مواقفها ودعمها العسكري والسياسي والاقتصادي لإسرائيل. وإذا ما أدانت محكمة العدل الدولية إسرائيل، فهي إدانة صارخة وسافرة بحق كل سياسات الولايات المتحدة في العالم، وهذا ما تخشاه الإدارة الأميركية أكثر ممّا تخشاه إسرائيل.

بيد أن دلالات جرّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية وبغض النظر عن أيّ نتائج تسفر عنها، تصل إلى جوانب أخرى وحيوية، منها بدء العد التنازلي لأفول التضليل الإعلامي العالمي، أي نهاية الاستفادة القصوى من تهمة “معاداة السامية” لقمع حرية التعبير التي لطالما كان الغرب يتبجح بها بقيادة الولايات المتحدة، فالعشرات من الموظفين أوقفوا عن العمل أو وبّخوا أو طردوا بسبب تغريدة أو كلمة تضامن مع الشعب الفلسطيني، وقد دحضت إذا لم نقل مزّقت مرافعة محامي دولة جنوب أفريقيا أمام قضاة المحكمة صفحات وصفحات من الرواية الإسرائيلية التي روّج لها الإعلام الغربي وخاصة الإعلام الرسمي والمأجور في الولايات المتحدة.

وبات جزء العالم المتوهم بواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط التي تسمّى إسرائيل، ينظر اليوم بأم عينيه كم كان مخدوعا بالرواية الإسرائيلية التي صورت الفلسطينيين أنهم لا يستحقون الحياة لأنهم يكرهون إسرائيل ويعادون السامية.

وها هي المحكمة الدولية تدفع بنيامين نتنياهو ليظهر بإطلالته غير البهية عشية جلسات اليوم الأول، ويقول لنا إن إسرائيل لا تنوي احتلال غزة وإنه لا يقاتل سكان غزة، بل إنه يحارب حماس، بعكس تصريحاته السابقة هو وأعضاء حكومته النازية مثل وزيري المالية والأمن القومي في إسرائيل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير التي كانت من الوثائق التي قدمت على طاولة المحكمة، وهي، أي تلك التصريحات، تقطر عنصرية ويندى لها جبين الإنسانية.

وأخيرا، بقدر ما يثبت تحرّك دولة جنوب أفريقيا لرفع دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية ما ذهبنا إليه سابقا من أن القضية الفلسطينية هي قضية ضمير الإنسانية وقضية تضع أسئلة كبرى على ماهيتنا الإنسانية متجاوزة كل معتقد ودين وقومية وعرق وجنس، بنفس القدر هي يوم حداد لمن يسمّون أنفسهم بالمقاومة والممانعة، لأنها أي دولة جنوب أفريقيا سحبت البساط من تحت أقدامهم وأغلقت أمامهم أسواق المتاجرة بالقضية الفلسطينية، وقامت بتمزيق هويتهم الزائفة، فلا عزاء لهم سوى إقناع حكومة جنوب أفريقيا بالانضمام إلى محور “المقاومة والممانعة” عسى ولعلّ يكون سُلوانا لهم.

العرب