في جانب أبعد من المدار العسكري والسياسي المرتبط بالمصالح الاستراتيجية الإيرانية، تسعى إيران منذ عملية “طوفان الأقصى” إلى تحقيق المزيد من المكاسب السياسية المتعلّقة بترتيب علاقاتها مع القوى السياسية في المنطقة، خصوصاً القوى السنّية وحركات الإسلام السياسي.
فإذا كانت إيران، ومن خلال عملية “طوفان الأقصى”، وإشعال جبهة لبنان كدعم ومساندة للمعركة في القطاع، بالإضافة إلى دخول الحوثيين على الخطّ في البحر الأحمر، تهدف لأن تقول إنّه لا يمكن إيجاد أيّ حلّ للقضية الفلسطينية بدونها، وإنّ الاستقرار في البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، ومضيق هرمز ومضيق باب المندب يرتبط بها وبمسارها، إلا أنّها أيضاً تريد تحقيق المزيد من الأهداف على المستوى القبول الشعبي بها وبسياساتها في الساحات العربية، والسنية تحديداً.
منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران ارتكز قائدها الإمام الخميني على قاعدة “تصدير الثورة”، وأعلن إحياء مناسبة سنوية ليوم القدس العالمي باعتباره عنواناً جامعاً للقوى الإسلامية في كلّ المنطقة، سنّةً وشيعةً. وبعدها أعلنت إيران ما يُعرف بـ”أسبوع الوحدة الإسلامية” الذي تركّز فيه على علاقتها كقوة شيعية، بالعالم السنّي. وقد ارتكزت هذه العلاقة على عناصر القوة بين طهران وقوى الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين والسلفيين، فيما كانت السياسة الإيرانية تتعارض مع سياسات الدول والأنظمة العربية.
في جانب أبعد من المدار العسكري والسياسي المرتبط بالمصالح الاستراتيجية الإيرانية، تسعى إيران منذ عملية “طوفان الأقصى” إلى تحقيق المزيد من المكاسب السياسية المتعلّقة بترتيب علاقاتها مع القوى السياسية في المنطقة
من “الصحوة الإسلامية” إلى “الخريف العربي”
مع بدايات الربيع العربي في تونس ومصر باركت إيران هذه الثورات وعملت على تعزيز العلاقات مع الإخوان المسلمين، وسمّاها الإمام الخامنئي “صحوة إسلامية ستغيّر تاريخ الأمة”. كان يقصد بـ”الأمة” المسلمين، سنّةً وشيعةً. لكنّ إيران بعد ذلك تراجعت عن هذا الموقف إثر اندلاع الثورة السورية التي تصدّت لها إيران بقوة وشاركت في العمليات العسكرية لإخمادها. وفيما بعد، مع بروز تنظيمَي داعش وجبهة النصرة، التقت إيران موضعياً مع “التحالف الدولي” لضرب هذه القوى والتنظيمات ولتهجير .سكّان المدن الرئيسية في سوريا والعراق. وهكذا انكسرت العلاقة بين إيران والقوى السنّية بسبب ما جرى في سوريا، وتوتّرت العلاقة مع حركة حماس. لكن بعد تحوّل الثورة في سوريا إلى حرب أهلية وتحقيق النظام السوري لتقدّم عسكري بدأت طهران باستعادة العلاقة مع حركة حماس.
ثبّتت إيران نفوذها في سوريا، العراق، اليمن ولبنان. بينما انشغلت دول الخليج العربي في ترتيب البيت الداخلي والتصدّي لموجة الإخوان المسلمين في مصر ودول عربية أخرى، كما انشغلت في منع نجاح الانقلاب الإيراني في البحرين تحت عنوان “الثورة”. بالإضافة إلى الانشغال الاستراتيجي في اليمن. وعلى وقع هذا التثبيت حصل الاتفاق النووي الإيراني الأميركي في 2015، الذي عاد وتعثّر مع عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (2017 – 2021). وفيما عادت المفاوضات مع إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، أرسى جزء من هذه المفاوضات بعضَ التفاهمات في العراق على ولادة حكومة محمد شياع السوداني، وعلى ترسيم الحدود البحرية في جنوب لبنان. وفي خضمّ هذه المفاوضات حصلت عملية “طوفان الأقصى”، التي قطعت الطريق على الاتفاق السعودي – الإسرائيلي. وأرادت إيران من خلالها القول إنّها صاحبة القوّة الأبرز في المنطقة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر.
بعد العملية التي شنّتها حماس، أرادت إيران التنصّل من مسؤوليّتها عمّا جرى، فيما برّأ الأميركيون الإيرانيين من التخطيط أو المشاركة في كلّ هذه العملية، وفي غيرها من العمليات التي شنّها حلفاء طهران ضدّ المصالح والمواقع الأميركية، أو ضدّ الإسرائيليين. فلطالما أكّد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أن لا علاقة لإيران بأيّ قرار من هذا النوع.
التفاوض الأميركي – الإيراني
في هذا الوقت، كانت المفاوضات الأميركية – الإيرانية مستمرّة، وكذلك المفاوضات السعودية – الإيرانية ضمن الاتفاق الذي وصل إليه الطرفان برعاية الصين في آذار 2023. على وقع هذه المفاوضات، وبعد العدوان الإسرائيلي على غزّة في أكتوبر (تشرين الثاني) 2023، برزت عمليات الحوثيين في البحر الأحمر، وهو ما استدعى من الأميركيين تشكيل تحالف لحماية الملاحة.
تشير مصادر دبلوماسية عربية إلى أنّ إيران تعمل على إعادة تنشيط علاقاتها بقوى الإسلام السياسي، وأنّ هناك مفاوضات مفتوحة قد بدأت منذ فترة مع “الإخوان المسلمين” من مصر وتونس ودول أخرى
رفضت السعودية ودول خليجية الانخراط في هذا التحالف لأنّها تعتبر أنّ أيّ توتير للأوضاع سيؤثّر على الاتفاق السعودي – الإيراني وسيعيد التوتّر إلى اليمن، وبالتالي لن يستمرّ الاستقرار الذي تطمح السعودية إلى تكريسه. في المقابل، تشير مصادر دبلوماسية غربية إلى أنّ المفاوضات الأميركية – الإيرانية تعثّرت في سلطنة عمان، خصوصاً بعد ضغوط إسرائيلية على الأميركيين واعتبار أنّ هؤلاء الأخيرين يتساهلون مع إيران إلى حدود بعيدة. هذا التعثّر في المفاوضات دفع بحلفاء إيران إلى تصعيد عملياتهم العسكرية ضدّ مصالح أميركية وإسرائيلية وفي البحر الأحمر وكأنّ إيران تريد القول من وراء ذلك إنّها شريكة في أيّ اتفاق ستشهده المنطقة، وإنّها لا بدّ لها من الوصول إلى اتفاق مع الأميركيين.
في موازاة التحضير الأميركي لحماية الملاحة في البحر الأحمر عبر التحالف الدولي، تنشّطت المفاوضات السعودية – الإيرانية، وقد حصلت زيارات متبادلة لمسؤولين من البلدين، وذلك للبحث في كلّ التطوّرات، وفي آفاق المرحلة المقبلة ولتجنّب التصعيد بينهما.
“نجاح إيران في استمال رأي عام سنّي”
في سياق متّصل، ركّزت إيران على استعادة الكثير من العناوين المرتبطة بالوحدة الإسلامية، وقد كان الأردن الهدف الأوّل لذلك، من خلال التظاهرات الكبيرة والضخمة التي شهدتها الشوارع الأردنية تضامناً مع غزة وفلسطين، والتي تضعها مصادر دبلوماسية عربية في خانة “نجاح إيران في خلق رأي عام سنّي مؤيّد لحماس، وبالتالي يتقاطع معها”. وتالياً شهدت الحدود الأردنية مع سوريا الكثير من التوتّرات والاشتباكات تارة مع مهرّبي مخدّرات، وتارة أخرى مع محاولة لتهريب السلاح إلى الداخل الفلسطيني، من دون إغفال الدعوات الصادرة من فصائل الحشد الشعبي في العراق للسلطات الأردنية لفتح الحدود لهم للعبور إلى فلسطين. الأمر الذي يضعه الأردنيون في خانة تهديد الأمن القومي الأردني. وهو ما رفع نسبة الخوف على الأردن، خصوصاً أنّ ملكه كان أوّل من أبدى تخوّفاً من مشروع “الهلال الشيعي” في 2004.
خلق رأي عام سنّيّ مؤيّد لإيران انسحب على لبنان أيضاً، من خلال مواقف كثيرة لشخصيات ورجال دين سنّة أبدوا تأييدهم لما يقوم به الحزب. كما أنّ الالتقاء حصل بشكل ميداني من خلال العمليات التي نفّذتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس انطلاقاً من لبنان، وكذلك بالنسبة إلى سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وقوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية، وكلّ هذه العمليات حصلت بإشراف الحزب الذي أراد أن يشير إلى الوحدة في القتال ووحدة الدم.
تريد إيران المراكمة على كلّ هذه التطوّرات في سبيل إعادة إحياء منطق “الوحدة الإسلامية” من خلال التقارب مع القوى الإسلامية في المنطقة، على الرغم من تحسين علاقاتها مع الدول والأنظمة، كالاتفاق مع السعودية والعلاقة الجيّدة مع الإمارات وقطر، وصولاً إلى تطوير المفاوضات لإعادة افتتاح السفارة الإيرانية في القاهرة.
إقرأ أيضاً: النوويّ عقدة التفاوض مجدّداً بين واشنطن وطهران
مصادر عربية: إيران تنشط مع “الإسلام السياسي”
في هذا السياق، تشير مصادر دبلوماسية عربية إلى أنّ إيران تعمل على إعادة تنشيط علاقاتها بقوى الإسلام السياسي، وأنّ هناك مفاوضات مفتوحة قد بدأت منذ فترة مع “الإخوان المسلمين” من مصر وتونس ودول أخرى، بالإضافة إلى مفاوضات مع القوى السلفية في مصر وفي دول عربية وبينها دول خليجية أيضاً لإعادة إعلاء مفهوم التقارب الإسلامي.
وتضيف المصادر العربية أنّ الإيرانيين يفكّرون في تنظيم مؤتمر جامع لكلّ القوى الإسلامية على الأراضي الإيرانية في المرحلة المقبلة. كلّ ذلك لا ينفصل عن اللقاءات التي عقدت في لبنان بين الحزب والجماعة الإسلامية أيضاً، .ودخول “قوات الفجر”، الذراع العسكرية لـ”الجماعة” الإسلامية إلى “منطق” ما يعرف بـ”وحدة الساحات” من خلال عمليات عسكرية جنوب لبنان ضدّ إسرائيل تضامناً مع غزّة بصرف النظر عن مدى جدّيتها العسكرية. هذا بالإضافة إلى إظهار التكامل السياسي بين الحزب وحماس والجهاد الإسلامي.
ليس بعيداً عن هذه التطوّرات، فإنّ المنطقة شهدت في الشهر الأوّل من السنة الجديدة مؤتمرين إسلاميَّين كبيرين، الأوّل في قطر في السادس من شهر كانون الثاني الحالي لـ”اتحاد العلماء المسلمين”، والثاني في إسطنبول في 14 كانون الثاني، بتنظيم من “الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين” و”مؤسسة القدس” و”مركز حوار الأديان” و”منتدى كوالالمبور” بهدف إعادة تنشيط العمل في سبيل الوحدة الإسلامية وسط معلومات تشير إلى أنّ الحضور الإيراني بارز ولا توقف فيه إيران مساعيها للاستثمار بذلك.