الحرب الإسرائيلية على غزّة تلد حرباً أخرى، تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد الحوثيين في اليمن. وبات الموقف يُنذر بتطوّر الرد على هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر إلى نزاع أوسع. ورغم أن عمليات القصف الأميركي البريطاني في اليمن تبدو مدروسة، فإن احتمالات التصعيد واتّساع مساحة المواجهات نحو الخليج العربي ومناطق من سورية والعراق ولبنان غير مستبعدة، وسواء تدخلت إيران في النزاع على نحو مباشر أم بقيت تمارس حربها بالوكالة، فإن أحد أهداف الضربات العسكرية توجيه رسالة ردْع لها بوصفها الداعم الأساسي للحوثيين، وصرح بذلك الرئيس الأميركي جو بايدن عندما تحدّث عن رسالة أميركية خاصة لإيران، تبعها اتصال من أجل وقف الهجمات بين وزير الخارجية البريطاني ديفيد كامرون ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان. وظهر من عدّة مؤشرات أن إيران ليست في وارد التراجع أمام رسائل القوة الأميركية البريطانية في البحر الأحمر، بل تبدو في موقع من له مصلحة في استدراج الولايات المتحدة إلى التورّط أكثر في النزاع وتوسيع نطاقه الجغرافي، ليطول مداه في ظروف حسّاسة جداً بالنسبة لإدارة بايدن، التي تستعد لحملة الانتخابات الرئاسة الأميركية.
وأهم نقاط ضعف واشنطن في القضية فشلها، الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، في تدويل أمن البحر الأحمر من خلال تشكيل قوة عالمية باسم “حارس الازدهار”، تتولّى منع الهجمات التي يقوم بها الحوثيون على السفن المتّجهة نحو ميناء إيلات الإسرائيلي. وكان انسحاب فرنسا وإسبانيا وإيطاليا من القوة، وعدم استجابة الدول العربية المتشاطئة على البحر للمشاركة فيها، رفضاً صريحاً للاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة في هذه المعركة، والسبب الرئيسي أن واشنطن شكّلت التحالف من أجل حماية إسرائيل، وليس من أجل أمن حركة الملاحة البحرية التجارية في البحر الأحمر. وأكدت الدول الأوروبية أن هذه المهمّة الخاصة يجب أن يكون لها نطاق عملها، ووسائلها، وأهدافها الخاصة، التي تحددها الهيئات المختصة في الاتحاد الأوروبي، بالشراكة مع دول المنطقة.
باتت معركة أمن البحر الأحمر مفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران، التي تعتبر على لسان حلفائها الحوثيين أن الوجود الأميركي في البحر الأحمر غير مشروع. وفي بداية الشهر الحالي (يناير/ كانون الثاني)، عزّزت طهران وجودها هناك بدخول واحدة من أهم مدمّراتها الحربية عبر مضيق باب المندب الاستراتيجي، لتنضمّ إلى عدة سفن من البحرية الإيرانية الموجودة في المنطقة وتزايد عددها بقوة منذ عام 2009. واللافت في الأمر غياب أصحاب الشأن من العرب، كما هو الحال في أي قضية عربية مشتركة.
أمر جيدٌ أن ترفض مصر والسعودية المشاركة في قوة دولية تتولى حماية مصالح إسرائيل البحرية، ولكن التخلي عن الدور في مسألة حيوية، كأمن البحر الأحمر، يثير أسئلةً كثيرة، وخصوصا أنهما الدولتان المعنيّتان بالدرجة الأولى بهذا الشريان الحيوي. ويشكل انسحابهما تخلّياً عن شأن سيادي عربي، وتركه مجالاً للنزاع بين قوى أجنبية في طليعتها الولايات المتحدة وإيران. وفي وُسع القاهرة والرياض أن تتوليّا القضية وتديراها بما يتماشى مع المصالح العربية والالتزامات الدولية، لكنهما تصرّان على النأي بالنفس. ولا يمكن قراءة الموقفين المصري والسعودي إلا في ضوْء تراجع الاهتمام بالأمن العربي في العقد الأخير، وهذا ما يفسّر إهمال مؤسسات العمل العربي المشترك كجامعة الدول العربية، وإسقاط قضية التضامن العربي من الحساب، وهو ما أدّى إلى اتساع مساحة التدخلات الأجنبية في الشؤون العربية. ومهما تكن نتيجة النزاع الراهن، فإن أمن هذه المنطقة بدأ بالخروج من يد الدول العربية. وعلاوة على الخسارة الاقتصادية، فإنها تفرّط بحقوقها السيادية، وأمنها المائي للقوى الأجنبية، التي لن تغادر المنطقة بمجرّد انتهاء المواجهة مع الحوثيين.