أسست الحرب الجارية في قطاع غزة على مدى الأشهر الأربعة الماضية حقائق جديدة في الشرق الأوسط، تعدت حدود الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى تفاعلات المنطقة بأسرها، ويمكن القول إن العلاقات الإيرانية – الإقليمية، والإيرانية – الأميركية، والإيرانية – الإسرائيلية، شهدت الجزء الأكبر من هذه الحقائق.
فعلى مستوى العلاقات الإيرانية – الإقليمية حرصت طهران الساعية إلى كسر عزلتها على خلق مساحة جديدة للصراعات الإقليمية والتأثير في مصالح ومصادر التهديد للدول الإقليمية الأخرى، أما على مستوى العلاقات الأميركية – الإيرانية فنجد أنه على رغم تأكيد واشنطن عدم صلة طهران بهجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإن التطورات التالية للأحداث كشفت عن دعم إيراني للحوثيين عسكرياً من خلال وجود قادة من الحرس الثوري و”حزب الله” في اليمن لتوجيه هجمات الحوثيين ضد الملاحة في البحر الأحمر.
وثمة دور أيضاً للرسائل المتبادلة بين إيران وواشنطن، ومفادها تحذيرات من الأولى للأخيرة بوقف الهجمات، وفي المقابل الرسائل الأميركية لإيران والحوثيين قبل الضربات، ثم القرار الأميركي بإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، لكن تفعيل القرار يبدأ بعد شهر، وكلها مؤشرات توحي بوجود تفاهمات أميركية – إيرانية عبر القنوات الخلفية تجعل حتى الضربات الأميركية ضد وكلاء إيران في سوريا أو العراق ضمن مستوى محدد من المواجهات المسلحة لتفادى التصعيد، ومن ثم يطرح التساؤل حول هل ثمة تفاهمات بين طهران وواشنطن حول الملف النووي؟ وحول إمداد إيران روسيا بالمسيرات أم أنه تم تأجيل تلك الملفات لحين الانتهاء من الانتخابات الأميركية؟
وفى حال انتظار الانتخابات فكيف ستتحرك إيران لكسب مزيد من الأوراق الإقليمية للمساومة بها عندما تقرر واشنطن مرة الأخرى كبح سلوكها؟
ويتفاوت الدعم الذى تقدمه طهران للجماعات المسلحة في المنطقة بحسب أهمية كل منها لها، ففي حين يستحوذ “حزب الله” اللبناني على كامل الدعم الإيراني حتى إنه يمثل نموذجاً واقعياً لمبدأ تصدير الثورة، إلا أن الجماعات الأخرى في المنطقة تحصل على دعم متفاوت، فما تقدمه إيران للحوثيين غير ما تقدمه لـ “حماس”، وما تقدمه للأخيرة يختلف عن “الجهاد الإسلامي”، فضلاً عن التفاوتات داخل الجماعات الشيعية في العراق، والجميع يأتي في مكانة أقل من “حزب الله” اللبناني.
لكن ما يشهده البحر الأحمر من اضطرابات تخدم مساعي إيران في أكثر من جهة جعل الحوثيين يثبتون أهميتهم الإستراتيجية لإيران، وبالتالي فربما تشهد العلاقات بينهما تطوراً وتعتمد عليهم بصورة أقوى في تلك المنطقة الإستراتيجية من العالم.
أما على مستوى التوترات الإيرانية – الإسرائيلية فقد تزايدت وتيرة استهداف الهجمات الإسرائيلية لقادة الحرس الثوري الإيراني ولرتب عسكرية مهمة في سوريا، ويثير تواتر العمليات ليس فقط فشلاً استخباراتياً وأمنياً إيرانياً في الداخل، بل اختراقاً إسرائيلياً لحلفاء طهران في الخارج، ومن ثم القدرة على اختراق المعلومات الخاصة بتحركات الحرس الثوري في سوريا.
كما أن الرد الإيراني على العملية التفجيرية التي حدثت في مدينة كرمان في ذكرى مقتل قاسم سليماني، وأعلنت إيران أن الفاعل هو “داعش”، جاء في سوريا وأربيل وباكستان، وكأنها رسالة إيرانية لترميم صورتها في الداخل الإيراني، لكن إقليمياً تستمر إسرائيل في إضعاف قدرة الردع الإيراني، فحتى اللحظة الراهنة تتمسك الأخيرة بعدم الرد على هجمات الأولى لها.
أما التساؤل الأهم فهو أين حزمة أدوات الإكراه والضغط المعروفة في العلاقات الدولية التي تستخدمها القوى الكبرى في مواجهة الدول الأخرى لتحقيق تأثير ما؟ ولماذا لا تستخدم واشنطن أياً من تلك الأدوات للتأثير في إيران ووقف توظيف ورقة الحوثيين في البحر الأحمر؟ ولماذا لم تستطع واشنطن القيام بدورها كقوة كبرى تسهم في حفظ الأمن والسلم الإقليميين؟
وكثيراً ما استخدمت الإدارات الأميركية المختلفة سياسة العصا والجزرة عند التعامل مع إيران لتشجيعها وتهديدها بما يمكن من السيطرة على سلوكها، ومع ذلك لم تستخدم إدارة الرئيس جو بايدن أياً من الأدوات بما يوازن السلوك الإيراني.