لم تعد هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر حدثاً محصوراً باستهداف السفن المتوجهة إلى إسرائيل كما يبررها مرتكبوها، فقد تحولت إلى حرب تهدد بإقفال تام لشريان تجاري عالمي تمر عبره ما نسبته 10 إلى 15 في المئة من حركة البضائع المتداولة على الكرة الأرضية بما فيها الموارد النفطية التي تفوق نسبتها الـ10 في المئة.
صحيح أن استهداف السفن أثر على حركة ميناء إيلات الإسرائيلي بنسبة كبيرة، لكنه حاصر مصر وقناة السويس التي تفقد نحو نصف إيراداتها من العملة الصعبة التي تحتاج إليها البلاد، ودفع بكبريات شركات النقل البحري إلى الاستغناء موقتاً عن باب المندب مفضلة الطريق القديم، الأطول والأكثر كلفة حول أفريقيا ورأس الرجاء الصالح.
وأدى ذلك إلى زيادات في رسوم التأمين وكلفة الشحن واستهلاك مزيد من الوقت، بالتالي إلى زيادات في أسعار البضائع، مما يفرض أعباء جديدة على الاقتصاد العالمي.
أصبح إغلاق البحر الأحمر على يد الحوثيين قضية عربية تعني الدول المحيطة مباشرة، وقضية عالمية تعني دولاً ومصالح دولية متشابكة، ولم تعد مسألة بسيطة تقتصر على طريقة لإبداء الدعم لغزة، كما يقول قادة الحوثيين في صنعاء، فإقفال باب المندب وتحويل بحر العرب إلى مسرح لمطاردة السفن ليس أمراً طبيعياً أو مقبولاً بعد عقود من التقاء عديد من الدول على محاربة القرصنة والتمسك بإبقاء الممرات آمنة.
منذ تسعينيات القرن الماضي حسم الصراع في القرن الأفريقي لمصلحة الغرب، فشلت محاولات تشكيل جبهة موحدة تضم دول إثيوبيا والصومال واليمن الجنوبي بدعم من الاتحاد السوفياتي، انهارت الأنظمة القائمة في تلك الدول ودبت فوضى القراصنة التي استدعت تدخلات دولية لحماية الملاحة، حضرت أساطيل الدول الكبرى إلى المنطقة وتسابق الجميع على إقامة القواعد العسكرية في جيبوتي حيث تتجاور معسكرات الفرنسيين والأميركيين والصينيين والإسبان والإيطاليين، كل هؤلاء حضروا تحت عنوان حماية حرية الملاحة.
بين التسعينيات ومنتصف العقد الثاني من القرن الحالي حل تهديد جديد لأمن البحر الأحمر، دخلت إيران المشتبكة مع جيرانها العرب والمتنافسة مع النفوذ الغربي في بازار التنافس، وبدأت إرسال سفنها إلى المياه الدولية، لكن نفوذها الأكبر حققته عبر دعمها الحوثيين الذين انقلبوا على السلطة الشرعية اليمنية وسيطروا على العاصمة صنعاء وبدأوا حرباً أهلية- إقليمية لا تزال قائمة.
عبر الحوثيين حاولت إيران ولا تزال قول كلمتها في شأن أمن البحر الأحمر، ووفرت لها حرب غزة الفرصة لإثبات حضورها طرفاً معنياً في ترتيبات مستقبلية قد تتخذ لإقرار السلام في الممر المائي الدولي.
ما يجري في الجنوب العربي تمارسه إيران في شماله، ففتح جبهة لبنان ضد إسرائيل يشبه فتح جبهة اليمن ضد الملاحة وفي الحالتين تنتظر إيران الاعتراف لها بدور مستقبلي في إقرار التسويات المحتملة، لكن هل ستسير الرياح في اتجاه ما تشتهيه السفن الإيرانية؟
تجري الآن محاولات واتصالات حثيثة من أجل وقف للنار في غزة على شكل هدنات متلاحقة يتخللها إطلاق لسراح فلسطينيين من السجون الإسرائيلية وإسرائيليين محتجزين في غزة منذ عملية “طوفان الأقصى”. لم ينته البحث بعد في الصفقة المحتملة، فإسرائيل لن تتخلى عن أهدافها الكبرى في القضاء على “حماس”، و”حماس” تطمح في التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار “مطلق وثابت” وهو ما تعارضه إسرائيل وأميركا.
لا يصاحب البحث عن صيغة لوقف النار في غزة، بحث عن التهدئة في جنوب البحر الأحمر، فيما تنشط الجهود على الجبهة الشمالية من أجل تسوية في لبنان تضمن قيام سلطة تلتزم ضبط الحدود اللبنانية وتتيح لـ”حزب الله” “النزول عن شجرة غزة”.
في الهدنة السابقة بين إسرائيل و”حماس” التزم الحزب المذكور وقف عملياته على الحدود اللبنانية، والآن أيضاً، يتوقع منه أن يقوم بالأمر عينه، لكن ماذا لو تأخرت الصفقة أو فشلت من الأساس؟
لم يستنفر تدخل “حزب الله” في الشمال تحركاً عسكرياً دولياً مثلما أثارته هجمات الحوثي في الجنوب العربي، وفيما تجمع التقديرات على أن الحزب يضبط خطواته المساندة لفصائل غزة على إيقاع حربها ومفاوضاتها، بما لا يهدد باشتعال حرب واسعة، إلا إذا بادرت إليها إسرائيل، فإن “المساندة” الحوثية لا يمكنها أن تستمر لأنها تصطدم مباشرة بشبكة المصالح الدولية، فباب المندب ليس مضائق تيران، ومع ذلك أشعل إغلاق تلك المضائق على إسرائيل حرب 1967 الكارثية.
لن ينتظر العالم تسوية في غزة كي يتخلص من أزمة إقفال الممر الملاحي الدولي، ويمكن لنا أن نتوقع دخولاً سريعاً على خط المعالجة من أطراف خارج التحالف الدولي الذي تقوده أميركا لضبط الحوثيين.
الصين وروسيا لن يمكنهما البقاء طويلاً في مقاعد المتفرجين. البلدان يحتاجان في تجارتهما الدولية إلى قناة السويس وباب المندب. وفي أرقام حديثة أن قيمة البضائع الصينية التي تعبر البحر الأحمر تناهز يومياً المليار دولار، فيما تعتمد روسيا على هذا الممر في إيصال صادراتها النفطية إلى الهند والصين.
الروس سبقوا الأميركيين في التعويل على تحرك صيني لإنهاء ما يجري في البحر العربي، كتبت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية أن “الحوثيين يقوضون مبادرة الحزام والطريق الصينية”، لقد أصبح مستقبل المبادرة ومصر واليمن وإيران أعضاء فيها، على المحك. “الحديث لا يدور فقط عن المال، بل وعن السمعة”.
المشكلة تطال روسيا في السمعة والمال. “سيصبح النفط الروسي أكثر كلفة بالنسبة إلى الهند والصين وسيتأخر وصوله”.
بالنسبة إلى الصين وروسيا مفتاح الحل هو في إيران، هذا اعتراف بقدر ما هو اتهام لطهران بالوقوف وراء الأزمة ودفع الحوثيين إلى إثارتها.
يقول إيغور يوشكوف الخبير في الجامعة المالية للحكومة الروسية وصندوق أمن الطاقة، إن “روسيا ستحاول بوضوح الاتفاق مع إيران كي تنسق طهران مرور الناقلات الروسية عبر قناة السويس والبحر الأحمر”!
إيران “ستنسق مرور السفن الروسية”! ماذا يعني ذلك غير أن إيران هي من يقفل البحر الأحمر؟ الأميركيون طلبوا من الصينيين ضبط إيران كي تضبط الحوثيين. المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي أكد أن أميركا دعت الصين إلى موقف إيجابي. فهي لها “تأثير في طهران، ولديها القدرة على إجراء مباحثات مع القادة الإيرانيين لا نستطيع نحن القيام بها”.
روسيا تحتاج دفعاً للقيام بدورها في الضغط على حليفها الإيراني، فهي عالقة في المستنقع الأوكراني وتستغل أي إمكانية لإزعاج خصومها في الولايات المتحدة وأوروبا، ولو كان ذلك على حساب أمن البحر الأحمر.
والدفع الذي تحتاج إليه روسيا سيأتي من أصدقائها العرب في مصر والخليج، الذين سيرغبون أن تقوم بدورها مع شريكها الإيراني لا أن تكتفي بالطلب إليه تسهيل مرورها في المضيق الملتهب.
أما الصين التي تحاول بناء رؤيتها الخاصة فوق أزمات العالم، فالوضع بالنسبة إليها يختلف، إنها راغبة في التوسط في تلك الأزمات، لكن قبل ذلك عليها النظر في وضع تجارتها العالمية ومشروعها الطموح: الحزام والطريق. ففي إطار هذا المشروع استثمرت كثيراً في مصر ومرافئها، وبنت أبراج العاصمة الإدارية ووسطها، والآن أصبحت الموانئ المصرية شبه فارغة.
في الخلاصة، لم يعد ربط هجمات البحر الأحمر بمعركة غزة كافياً ومقنعاً، لقد تحرك الغرب عسكرياً وهو ينتظر الآن ما سيفعله الروس والصينيون مع مدير المعركة الإيراني.