حينما تنتهي الحرب الإسرائيلية على غزة سيكون من أهم تداعياتها والتي ستؤسس لواقع جيوسياسي جديد في الإقليم والنظام الدولي، إعلان إيران “دولة عتبة نووية”، لذا قدمت إطالة أمد العملية الإسرائيلية على القطاع ميزة لطهران حرصت على الاستفادة منها.
وخرج خلال الأيام الماضية تصريحان مهمان يؤكدان قرب الواقع النووي الجديد، الأول هو تصريح من رئيس الطاقة الذرية الإيراني السابق علي أكبر صالحي الذي أشار إلى أن طهران لديها كل أجزاء السلاح النووي في مكانها ولكنها مفككة.
أما التصريح الثاني، فكان ما قاله المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي لوكالة “رويترز” إن إيران تواصل تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز حاجات الاستخدام النووي التجاري، بينما سبق أن أشار رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيراني محمد سلامي إلى أنه على رغم أعوام العقوبات الغربية، فإن القطاع النووي الإيراني يعد من بين الخمسة الأوائل في العالم، وسلط الضوء على إنجازات طهران في برنامج الطاقة النووية السلمية، بما في ذلك إنتاج الماء الثقيل عالي الجودة.
على رغم أن تصريحات غروسي متكررة وتؤكد الحقيقة ذاتها وهي أن إيران تجاوزت التزاماتها في خطة العمل المشتركة الشاملة لعام 2015 والمعروفة بالاتفاق النووي إعلامياً، إلا أن تصريحي صالحي وسلامي يشيران إلى أن إيران لم يعُد يفصلها عن تصنيع السلاح النووي سوى اتخاذ القرار.
هنا يثار التساؤل حول لماذا يحاول المسؤولون الإيرانيون التباهي بتراكم القدرات النووية وإثارة واشنطن في هذا التوقيت؟ هل التباهي ينم عن قدرات حقيقية راكمتها طهران لتصل إلى ما يسمى “دولة عتبة نووية”، أم أن هناك مبالغة في تصوير قدراتها النووية؟
ربما تحاول إيران من خلال التباهي بالقدرات النووية المتقنة والمتطورة تعزيز قدرات الردع لديها أمام إسرائيل، ومن جهة أخرى كسب أوراق إضافية عند التفاوض مع واشنطن، ومن ثم الاستفادة من مكاسب الردع للسلاح النووي من دون أن تبذل الكلفة السياسية والعسكرية للتسلح.
لكن بصورة عامة هناك ثلاث حقائق لا بد من التعامل معها في ما يخص الملف النووي الإيراني، سواء إقليمياً أو دولياً، الأولى أن مخزون إيران من المواد الانشطارية تضاعف نحو 22 مرة منذ انسحاب إدارة دونالد ترمب من الاتفاق في مايو (أيار) 2018، خصوصاً طوال عامي 2021 و2022 ولا يزال تخصيب اليورانيوم يجري بمعدل مرتفع يبلغ نحو سبعة كيلوغرامات شهرياً إلى درجة نقاء 60 في المئة، وهو مستوى قريب من مستوى صنع الأسلحة.
أما الحقيقة الثانية، فإنه منذ الـ16 من فبراير (شباط) 2021 لم تتمكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التحقق من إجمالي اليورانيوم المخصب لدى إيران، وضعفت قدرتها على مراقبة وفحص برنامجها النووي، ففي آخر تقرير لمدير عام الوكالة والصادر في الـ22 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 قال إنه “بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة لن تتمكن الوكالة من إعادة تأسيس استمرارية المعرفة في ما يتعلق بإنتاج وجرد أجهزة الطرد المركزي والدوارات والمنافيخ والماء الثقيل وخام النفط الخام، وبدلاً من ذلك ستحتاج الوكالة إلى إنشاء خط أساس جديد في ما يتعلق بهذا الإنتاج والمخزونات، نواجه تحديات كبيرة في القيام بذلك، بما فيها صعوبة التأكد من دقة أي إعلان من قبل إيران لناحية إنتاجها من أجهزة الطرد المركزي، ولم يتم تشغيل أي معدات للتحقق والرصد، لقد تأثرت عملية التحقق والرصد المتعلقة بخطة العمل الشاملة المشتركة التي تقوم بها الوكالة بصورة خطرة جراء هذا القرار”.
كما أكد التقرير أنه في حال استئناف إيران الكامل لتنفيذ برامجها النووية ومع الالتزامات بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، لن تتمكن الوكالة من إعادة تأسيس استمرارية المعرفة في هذه المناطق، وبدلاً من ذلك ستحتاج الوكالة إلى إنشاء خط أساس جديد لتخفيف الفجوة الطويلة.
لقد كان لقرار إيران بإزالة جميع معدات الوكالة التي سبق تركيبها ووقف أنشطة المراقبة والرصد المتعلقة بخطة العمل الشاملة المشتركة وسحب تعيين عدد من مفتشي الوكالة ذوي الخبرة المعينين، آثار ضارة على الاتفاق النووي وعلى قدرة الوكالة في تقديم ضمانات حول الطبيعة السلمية لبرنامج إيران النووي وعلى القيام بأنشطة التحقق الخاصة بها بصورة فاعلة، خصوصاً في منشآت التخصيب.
منذ الحرب في غزة تعمل طهران على التباهي وصارت أكثر صخباً في ما يخص تقدمها العسكري والنووي، مما يعني أنها تستعد لمرحلة ما بعد غزة والتي ستكون فيها إيران “دولة عتبة نووية”، ومما يخلق واقعاً جيوسياسياً جديداً في المنطقة، فضلاً عن تقويض قدرة المجتمع الدولي على ضبط الانتشار النووي، وكثيراً ما استغل النظام الإيراني الفرص المتاحة إقليمياً.
ويعني مفهوم الدولة على عتبة السلاح النووي، الدولة التي تمتلك القدرات التقنية والمواد الانشطارية اللازمة لصنع سلاح نووي. ونظراً إلى تعدد أبعاد المفهوم سياسياً واستراتيجياً وعسكرياً وصناعياً وتقنياً وعلمياً، هذا ما تحاول إيران أن تروج لتحققه لما لهذا المفهوم وأبعاده من تأثيرات جيوسياسية ستتجلى في سلوكها الإقليمي وتجاه جيرانها من الدول العربية والخليجية من جهة وقدرات الردع والصراع مع إسرائيل من جهة أخرى.
لا بد من أن تستعد دول المنطقة للتعامل مع إيران والواقع النووي الجديد، وعلى المجتمع الدولي وواشنطن معرفة أدوات التعامل مع العواقب الإقليمية والدولية المحتملة، وما هي الاستجابات المتوقعة، ومن جهة أخرى الوقوف على مدى إمكان النظام الدولي وكفاءته في مجال ضبط انتشار السلاح النووي.