يبرز تصاعد التوترات في البحر الأحمر، من بين أهم الظواهر التي ظلت تتجدد باستمرار مؤثرة في السياسة والاقتصاد الدولي، ومثلما تجتذب المنطقة تنافساً ونفوذاً دولياً بحكم حيويتها وتأثيرها الاقتصادي في أجزاء كبيرة من العالم، فإن ذلك ينعكس جغرافياً مباشرة على الشرق الأوسط وأفريقيا ويتسبب في بروز مواقف دبلوماسية وتحركات عسكرية، وتأثيرات اقتصادية تثير قلق العالم في شأن كثير من نظمها السياسية غير المستقرة.
في السياق الجيوسياسي المتطور، ظهر البحر الأحمر كمجال حاسم للاقتصاد السياسي بإطلالته على منطقة القرن الأفريقي المزعزعة إلى حد كبير، متواترة النزاعات وآخرها الحرب السودانية لأن معظم دولها واقعة في صراعات داخلية أو مع جيرانها، وعدم استقرار سياسي منذ استقلالها ولم يتم دمجها في الاقتصاد الدولي لفترة طويلة. ومع ذلك، فإن المنطقة غنية بالموارد الطبيعية وذات أهمية جيواستراتيجية، إذ تضم أكثر من ثمانية موانئ بحرية متطورة في السودان وإريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا، وتعد “الفناء الخلفي” من جهة الغرب للبحر الأحمر ومحوراً رئيساً بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا.
ظل الوجود العسكري الدولي يتزايد بصورة مطّردة بعد اندلاع الحرب في قطاع غزة على إثر الهجوم الذي نفذته حركة “حماس” على إسرائيل، مما تسبب في رد عنيف مستمر، ولم تحد منه الهدنة الإنسانية الموقتة التي اختُرقت في يومها الثالث، بينما استمر تعرض النقل البحري في المياه الاستراتيجية للبحر الأحمر لهجوم متجدد.
ومع انتقال الحرب في غزة إلى مرحلة متقدمة، بات البحر الأحمر يجتذب اهتمامات متزايدة من دول العالم، خصوصاً بانهيار إمكانات النمو الجيوسياسي والتحرك الاقتصادي، انطلاقاً من موقعه المهم الذي يجعله مركزاً لسياسات القوى الدولية مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وإيران وتركيا.
ركيزة الأمن
تحول البحر الأحمر إلى بؤرة صراع في الشرق الأوسط، وأحدث النزاع في قطاع غزة حالاً من عدم الاستقرار نتج منها تهديد كبير لقطع إمدادات الطاقة وتعطيل حركة الملاحة البحرية التجارية إقليمياً ودولياً. ولمواجهة هذه التهديدات، أجمعت الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، على أن الأمن في البحر الأحمر يمثل مصلحة استراتيجية لها ولأوروبا والعالم.
شهدت مياه البحر الأحمر توترات متتالية ضمن سلسلة هجمات نفذها الحوثيون على سفن وناقلات نفط دولية منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تضامناً مع حركة “حماس” التي بدأت هجوماً على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.وأعلنت جماعة الحوثي استهداف السفن التي تعبر مضيق باب المندب في حال استمر القصف على قطاع غزة.
ومع كل نزاع دولي أو حرب، تتجه الأنظار نحو الملاحة البحرية في البحر الأحمر والممرات البحرية الأخرى منها باب المندب، في ظل تزايد المخاوف من أن هجمات الحوثيين قد تضر باقتصاداتها وتعوق الاستثمار في المنطقة وتؤدي إلى ارتفاع التضخم، مما يستلزم ضرورة حماية حرية الملاحة والتدفق الحر للتجارة البحرية.
ومن بين ركائز الاهتمامات الدولية والإقليمية المختلفة، كانت ركيزة الأمن القومي أساسية في مجال التزامات الولايات المتحدة تجاه منطقة البحر الأحمر، وقد تغاضت الولايات المتحدة عنها لفترة من الزمن، على رغم أنها باتت ساحة للصراع والتنافس، تنطلق عبرها نشاطات القرصنة والاتجار بالبشر والإرهاب.
ديناميات جيوسياسية
أدى الصراع على الهيمنة في القرن الأفريقي إلى تأجيج عدم الاستقرار وانعدام الأمن في بيئة متوترة بالفعل حيث لكل من القوى الدولية عدد من المصالح الأساسية، أدت إلى احتدام المنافسة بين الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط منذ قيام إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب برفع المنافسة الاستراتيجية الأميركية مع الصين وروسيا كأولوية قصوى للأمن القومي، ولا تزال صراعات مسلحة كبيرة قائمة في المنطقة القريبة إن لم تكن المجاورة للبحر الأحمر في الصومال والسودان واليمن وجنوب السودان وإثيوبيا وغيرها.
خلال الأعوام الأخيرة، أصبحت الديناميات الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية المحيطة بالبحر الأحمر مرتبطة ما بين القرن الأفريقي والشرق الأوسط والمحيط الهندي، ومع ذلك كافحت استراتيجية الولايات المتحدة في هذه البيئة المتطورة أملاً في مواكبتها ولأن مصالحها تقع ضمن تسلسل أولويات متقلبة، تتدخل حيناً، وفي أحيان أخرى تكتفي بالمساعدة في تقديم توصيات الدفاع عن المصالح وتعزيزها.
ولكن ظل الربط بين أمنها القومي وأمن النفط في المنطقة وأمن إسرائيل حاضراً على الدوام، فأنشأت القاعدة العسكرية “ليمونير” في جيبوتي عام 2007 التي أصبحت مقراً لقوات “أفريكوم” في المنطقة، ومهمتها مراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا واليمن، كما أنشأت قاعدة “باليدوغل” في الصومال، وقاعدتين بحريتين في كينيا “مومباسا ونابلوك”، وفي إثيوبيا توجد قاعدة “أربا مينش” الجوية للطائرات المسيّرة منذ عام 2011.
ولدى عدد من القوى الدولية قواعد عسكرية في المنطقة منها فرنسا التي تحتفظ بأكبر قاعدة عسكرية أجنبية لها خارج حدودها في جيبوتي، وهناك قاعدة بريطانية في منطقة بيدوا في الصومال. وتسعى روسيا إلى إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر حيث تدخل في محاولات مع السودان منذ عهد النظام السابق، كما وقعت مذكرة تفاهم مع إريتريا لربط ميناء مصوع مع قاعدة البحر الأسود البحرية “سيفاستوبول”.
وأسست الصين في 2017 قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي القاعدة الوحيدة خارج الأراضي الصينية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وافتتحت تركيا قاعدة عسكرية في الصومال عام 2017 وهي أكبر قاعدة عسكرية تركية في العالم.
مخاوف إسرائيلية
وأعلن الأسطول الخامس التابع للبحرية الأميركية في أكتوبر الماضي عن إرسال أكثر من 3 آلاف بحار وجندي أميركي وسفن هجومية برمائية إلى البحر الأحمر تحسباً لإغلاق مضيق باب المندب من قبل الحوثيين. كما أنشأت الولايات المتحدة قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات في البحر الأحمر في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فيما أعلن الاتحاد الأوروبي بعد موافقة الدول الـ27 الأعضاء فيه، أخيراً إطلاق العملية العسكرية البحرية “أسبيدس” للمساعدة في حماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر من هجمات الحوثيين في اليمن، عبرت عنها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بقولها “أوروبا ستضمن حرية الملاحة في البحر الأحمر بالتنسيق مع شركائنا الدوليين”.
وذكر الاتحاد الأوروبي أن “المهمة محددة لمدة عام قابلة للتجديد، وتقتصر على حماية السفن المدنية في البحر الأحمر، ولن يتم تنفيذ أي هجمات على الأراضي اليمنية”.
المخاوف الإسرائيلية عبرت عنها مجلة “عدكون استراتيجي” الصادرة عن مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي فكتبت أن “أحد مخاوف إسرائيل المرتبطة بالوضع اليمني يتمحور حول استحواذ الحوثيين على أسلحة متطورة تمكنهم من مهاجمة الأصول الإسرائيلية في البحر الأحمر أو استهداف إسرائيل مباشرة، لذا تعطي أولوية لمنع هذا السيناريو”.
أما مسؤول الاستخبارات السابق والباحث في “مركز بار إيلان للدراسات الاستراتيجية بجامعة بيغن السادات” إيال بينكو، فأوضح أن “تقارير أشارت إلى استخدام قوات الحوثيين نظام التعرف التلقائي (إيه آي إس) الذي يمكنه التعرف إلى السفن الإسرائيلية، مما عزز المخاوف من استهداف تلك السفن بالصواريخ الساحلية والألغام البحرية”.
بوارج إيرانية
تدخل منطقة البحر الأحمر إلى بؤرة صراع جديد بإرسال مزيد من القوة البحرية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة، والصين وروسيا وتركيا من جهة أخرى، مما ينذر بتنفيذ التهديدات الإيرانية علناً. منذ بدء الصراع، استمرت إيران في التحذير من تواصل التصعيد الإسرائيلي في غزة وسط وجود أميركي في البحر الأحمر والخليج العربي، وبدت رغبتها واضحة في تعزيز نفوذها بالمنطقة واستخدام هذا التهديد للضغط في أزمة الملف النووي.
وكشفت إيران عن انضمام بوارج بحرية من فئة سلسلة البوارج المسماة “قاسم سليماني” إلى القوات البحرية للحرس الثوري، آخرها بحسب ما أفادت وكالة “مهر” للأنباء، انضمام سفينتين عسكريتين حديثتين وهما سفينة “صياد شيرازي” وسفينة “حسن باقري”. وأوضح قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني الأدميرال علي رضا تنكسيري أن “هذه البوارج لا ترصدها الرادارات وهي مزودة بأربعة محركات بحرية وتعد قادرة على الإبحار في أعالي البحار، وتبلغ سرعتها 37 عقدة بحرية، وتتمتع أيضاً بقدرة عالية على المناورة وإمكان الهبوط والإقلاع للطائرات المسيّرة العمودية الإقلاع، وكذلك إمكان الإطلاق لطائرات مسيّرة هجومية في الليل والنهار”.
وذكرت وكالة “فارس” أن البوارج “مخصصة للدفاع الجوي والتعامل مع الأهداف المعادية، وهي مزودة بمنظومات الكشف والاعتراض ومنصات الإطلاق البحرية ومنظومات مدفعية أوتوماتيكية ونصف أوتوماتيكية من عياري 20 و30 ملم، وتم تصميمها وصنعها بحسب المواصفات التي تتطلبها مهمات القوات البحرية للحرس الثوري”.
هجمات المحور
قال الكاتب في صحيفة “اعتماد” الإيرانية “الإصلاحية” صادق غل عنبري إن “دخول المحور الإقليمي بقيادة إيران، خصوصاً في جنوب لبنان واليمن، إلى الصراع في غزة من قبل عند مستوى معين كان فاعلاً، إلا أنه لم يوقف هجمات إسرائيل وتصاعد الحرب”.
وأوضح عنبري أن “هجمات المحور كانت تهدف إلى إرسال رسالة تهديد للولايات المتحدة وإسرائيل في شأن توسيع الحرب بغية خلق نوع من الردع ضد إسرائيل في حرب غزة، والتي مع مرور الوقت ومع تشكيل نوع من الثقة بعدم توسيع نطاق الحرب والتهديدات في هذا الصدد أيضاً فقدت فاعليتها، لكن هذا لا ينفي فاعلية هذا المستوى من إشعال النار”.
وأضاف الكاتب الصحافي الإيراني أنه “في ظل تهديدات الحوثيين والتطورات المهمة في باب المندب وتأثيراتها في الاقتصاد العالمي يمكن أن يصدر عنها رد فعل من قبل الولايات المتحدة، ويمكن أن تتسبب في إشعال الحرب من جديد في هذه المنطقة. وعلى رغم أن هذه الحرب غير محتملة، إلا أن كل شيء يعتمد على مستقبل التوتر في المنطقة والتحركات المحتملة للقوى الدولية”.
كما حذر الدبلوماسي الإيراني السابق فريدون مجلسي من أن تشكيل التحالف العسكري في البحر الأحمر يمكن أن يؤدي إلى انتقال التوترات من البحر الأحمر إلى الخليج العربي ومضيق هرمز، موضحاً “لأن المغامرة العسكرية في البحر الأحمر من جانب الدول ليست قضية يمكن حلها بالإنكار والنفي، بل هي نوع من إعلان الموقف الصريح للدول ضد بعضها، ويمكن أن يعمل هذا كبرميل بارود ويدفع الحكومات إلى المواجهة”.
وأكد أن “التوتر والصراع بين إيران والولايات المتحدة حقيقة مرة، ويحدث ذلك بصورة غير مباشرة في أحداث غزة الحالية بتبادل الاتهامات واحتدام الخلافات”.
دعم العمليات
يعكس هذا المشهد الجيوسياسي سريع التطور في البحر الأحمر أن إدراك التصعيد وتطور الصراع تم تجاهلهما لفترة من الزمن، مما يؤدي إلى سيناريو دخول المنطقة بؤرة صراع جديدة ربما تختلف عن غيرها من الصراعات السابقة وتكون بمثابة التعويض عن اللامبالاة السابقة، وذلك لعوامل عدة، أولاً، أن منطقة البحر الأحمر ظلت مسرحاً للصراع الدولي مع عدم الاستقرار السياسي والسيولة الأمنية لبعض الدول التي يمثل البحر الأحمر إطلالتها المهمة، لذا ستتعامل معها القوى الدولية بمزيد من الحسم.
ثانياً، المتغيرات الراهنة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط واحتمالية تصاعد أبعاد الصراع في قطاع غزة، يزيد من احتدام المنافسة الدولية في منطقة البحر الأحمر بين الولايات المتحدة وأوروبا والصين إضافة إلى إيران، بالتزامن مع استمرار الحرب الأوكرانية المؤثرة في أزمتي الطاقة والغذاء، وستتدخل هذه الدول مدفوعة بإعادة صياغة مزيج الاقتصاد السياسي مع النزعة السلطوية.
ثالثاً، نظراً إلى وجهات النظر حول المصلحة والحماية والأمن وتعدد الشركاء الاستراتيجيين لدول البحر الأحمر، فيمكن أن يؤدي ذلك إلى تحديات أبرزها نشوب خلافات حول علاقات هذه الدول مع دول منطقة شرق أفريقيا التي ستجد نفسها عالقة بين قوى متنافسة مثل الولايات المتحدة والصين في سعيها إلى بسط نفوذها في المنطقة وبين الدول الحليفة لها، إذ يمكن أن تسعى إلى إيجاد بدائل لدعم العمليات العسكرية تماشياً مع اتجاه النشاط المتزايد، مما يحدث اضطراباً في منطقة البحر الأحمر، ومحاولات الوصول إلى المراكز اللوجستية للعمليات العسكرية فيها، وينذر بوقع كارثة.