كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” هو عملياً توصيف لمشكلة لا لحال طبيعية، ومن أخطاء الأيديولوجيات، كما كشفت عنها التجارب بكلفة باهظة مادية ومعنوية، تركيزها على تحليل وحيد للمشكلات وتقديم حل وحيد لها، فلا صراع الطبقات في الماركسية يفسر كل شيء في الأنظمة، ولا البنية الثقافية والسياسية الفوقية هي مجرد انعكاس للبنية الاقتصادية التحتية، ولا تفوق العرق الآري بحسب النازية أو العرق الأبيض بحسب المدافعين عن التمييز العنصري، هو أكثر من صراع عبثي في عالم واحد لا فضل فيه لعرق على آخر، ولا شعار “ما لا ينجح بالقوة ينجح بمزيد من القوة” سوى بطاقة دعوة إلى كوارث تزيد الأزمات عمقاً.
ولا يبدل في الأمر دفاع بعضهم عن الأيديولوجيا في عصر ما بعد الأيديولوجيا، كما في كتاب عازار غايت “ترسيخ أيديولوجي: من العصر الحجري إلى الحروب الثقافية اليوم”، إذ يرى الكاتب أن الأيديولوجيا ضرورية وصورة عميقة للشرط الإنساني، فالعلماء والفلاسفة جادلوا طويلاً بأن البشر لا يستطيعون القبض بالكامل على الحقيقة الموضوعية، وأن الأيديولوجيا تساعد الناس في فهم العالم ورسم إطار له بحيث يستطيع العقل إنتاج صورة للحقيقة، لكن المؤلف يعترف في النهاية بأن “الأيديولوجيا سيف ذو حدين: هي أداة ضرورية للإبحار في اللايقين وتعقيدات الحياة المعاصرة، ويمكن أن تصبح بسهولة ترسيخاً خطراً وإدارة لحرب عصابات سياسية”.
والمسألة أخطر بكثير من هذا الاستدراك، فالأيديولوجيا عدو الحقيقة لا الطريق إلى معرفتها، وهي لا تتطور مع المتغيرات والوقائع، بل تعمل دائماً على تطويع المتغيرات والوقائع لرؤيتها الضيقة، وبعضها نوع يزيد الجاهل جهلاً بمجتمعه والعالم.
أمامنا اليوم نموذج مخيف، السياسية أو العقيدة ذات البعد الواحد، وأين؟ في عالم مركب ومعقد وغارق في صراعات عدة، والذين يعملون لهذه السياسية أو العقيدة يركزون دائماً على خطر وحيد ويتجاهلون بقية الأخطار، كما يتحدثون عن علاج وحيد لأمراض مختلفة أحادية كاملة بعد واحد ثابت، فمن يركز على الخطر الإسرائيلي يتجاهل الخطر الإيراني والعكس، ومن يوجه كل نشاطه ضد الخطر الإمبريالي الأميركي ينسى خطر الإرهاب ويتجاهل ما تفعله الإمبرياليات الصاعدة الصينية والروسية وحتى النزعات الإمبراطورية لدى قوى إقليمية كانت في الماضي إمبراطوريات.
ولا بد من نظرة شاملة إلى كل الأخطار ومعها رؤية مدى كل خطر وإلى أية درجة هو واسع أو محدود، ولا فارق بين من يطمع باحتلال الأرض ومن يطمح لاحتلال الشعب، ولا مجال لنسيان الغزو الروسي لأوكرانيا مع التركيز على الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة، ولا فائدة من انتقاد النفاق الأوروبي والسخرية من الديمقراطية في أميركا وأوروبا مع تجاهل الأنظمة الشمولية التي نعيش وعملياً نموت في ظلها.
وبكلام آخر فإن الأخطر هو تجاهل المشكلات والأخطار الداخلية التي تشكلها الأنظمة الأحادية والقوى الأيديولوجية المسلحة خارج إطار الدولة، فمن السهل رد كل ما يحدث في بلداننا إلى مؤامرات الأعداء والخطط الإمبريالية، لكن من الصعب أن يصدق عاقل أن تظاهرة مليونية في بلد مثل إيران يحركها “الشيطان الأكبر” الأميركي أو حتى “الشيطان الأصغر” الإسرائيلي.
ومن يصفق للحوثيين حين يطلقون الصواريخ والمسيرات على السفن في البحر الأحمر لإسناد “حماس” في حرب غزة، يتجاهل أن الحوثيين قاموا بانقلاب على السلطة الشرعية بعد الثورة والاتفاق على النظام الجديد، وما يمثلونه على صعيد العودة للإمارة الدينية.
الموقف ضد إسرائيل أو إيران أو أميركا أو أي طرف آخر ليس إجازة لفعل ما يريد صاحبه بالناس ولا ممحاة لكل أخطائه، وليست الأيديولوجيا سوى أداة في يد أنظمة الشخص الواحد والبعد الواحد حيث الأزمات والمآزق متعددة.