مر عامان على نشوب الحرب الروسية ـ الأوكرانية والسياسة الغربية التي أرادت إلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بالقوات الروسية في ميادين القتال وإنزال ضرر بالغ بالاقتصاد الروسي من خلال فرض العقوبات لم تحقق بعد نجاحات تذكر.
عسكريا، وعلى الرغم من إمدادات السلاح المستمرة من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا وبدرجة أقل فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية للجيش الأوكراني، لم تتراجع القوات الروسية في المناطق التي سيطرت عليها ولم تتقدم القوات الأوكرانية على الرغم من محاولاتها المتكررة. وإذا كانت كييف ومدن الوسط والغرب قد صارت بعيدة عن مشاة ومدفعية الجيش الروسي، فإن السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا والمناطق الحدودية في الشرق ذات الأغلبية السكانية الروسية لم تعد محل منازعة حقيقية.
اقتصاديا، لم تسفر العقوبات التجارية والمالية والتكنولوجية التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على روسيا، ومن ضمنها حظر استيراد الطاقة الروسية، عن انهيار معدلات النمو أو عن ارتفاع معدلات التضخم أو عن زيادة نسب الفقر والبطالة في الاتحاد الروسي. على العكس من ذلك، سجل الاقتصاد الروسي نموا قدر بـ 3.6 في المئة في 2023 ولم تتجاوز معدلات التضخم خلال العامين الماضيين حدود 8 في المئة.
سياسيا، كان الرهان الغربي هو أن تتعثر حكومة الرئيس فلاديمير بوتين عسكريا واقتصاديا في أوكرانيا على نحو يفتح أبواب المنازعة والمعارضة داخل دوائر نخبة الحكم الروسية ويرتب ربما «انقلاب قصر» يطيح ببوتين وينهي الحرب في أوكرانيا. هنا أيضا لم تصدق التوقعات الأمريكية والأوروبية، فلا مكانة بوتين اهتزت بين دوائر نخبة الحكم ولا سيطرته تراجعت ولا معارضة داخلية أو سياسية عامة تبلورت وضغطت من أجل إنهاء الحرب. بل أن بوتين وحكومته تجاوزا خلال العامين الماضيين أزمات داخلية من نوعية تمرد ميليشيات فاغنر ثم مقتل قائدها في حادثة سقوط طائرة خاصة في 2023 ووفاة المعارض الروسي نافالني في سجنه السيبيري في 2024 دون كلفة سياسية كبيرة.
والواقع أن نجاح روسيا في التماسك العسكري والاقتصادي والسياسي لم يرتبط فقط بتوظيف الثروات والقدرات الداخلية الهائلة التي مكّنت على سبيل المثال المكون الصناعي – العسكري من رفع قدراته الإنتاجية وقيادة النمو الاقتصادي المشار إليه أعلاه، ولم يتعلق فقط بالقبضة السياسية والأمنية القوية للرئيس فلاديمير بوتين التي ساعدته على التحييد السريع لميليشيات فاغنر وإنهاء تمردها. بل تواكب التماسك الروسي مع توظيف موسكو الناجح لتحالفاتها الدولية لتقليل التداعيات السلبية للسلاح الغربي المتدفق على أوكرانيا والعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على روسيا.
بعد نشوب الحرب قادت واشنطن ومعها برلين ولندن رفض التفاوض مع موسكو وضغطت على كييف لعدم الذهاب إلى جلسات مفاوضات انطلاقا من أن السلاح الغربي سيغيّر المعادلات العسكرية على الأرض
حصلت روسيا على أسلحة نوعية (مسيّرات) وذخائر من حليفتيها الاستراتيجيتين إيران وكوريا الشمالية ساعدتها على مواجهة مراحل التراجع في الأداء العسكري لقواتها ومحطات النقص في الإمدادات العسكرية. أما اقتصاديا وتجاريا، فاستفادت روسيا كثيرا من تطور تعاونها مع الصين حيث نمت التبادلات التجارية بين البلدين بنسبة تتجاوز 35 في المئة في 2023 واعتمدت العملتان الوطنيتان (الروبل والإيوان) كأساس للتبادل. كذلك استفادت روسيا من تنامي علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الهند ودول مجموعة البريكس والعديد من بلدان الجنوب العالمي، وجميع تلك الدول رفضت المشاركة في تطبيق العقوبات الغربية. كما أن السياسة الخارجية لموسكو نجحت في حشد رفض دولي خارج الغرب للعقوبات وصنعت توافقا دبلوماسيا عالميا يعترف باعتبارات الأمن القومي الروسي التي لا يمكن تجاهلها فيما خص وضع أوكرانيا ومسألة انضمامها إلى عضوية حلف الناتو من عدمها، وانعكس ذلك بوضوح في السلوك التصويتي للدول غير الغربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مقترحات قرارات إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا التي تقدمت بها الدبلوماسيات الأمريكية والأوروبية ورفضتها أو تحفظت عليها أغلبية من الدول الآسيوية والإفريقية والأمريكية اللاتينية.
بعد عامين على نشوب الحرب الروسية ـ الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022، إذن، يقف الغرب أمام حصاد سلبي لسياسته تجاه روسيا. فلا القوات الروسية دحرت ولا الاقتصاد انهار ولا العقوبات الغربية تحولت إلى عقوبات عالمية. وصار الرفض الأمريكي والأوروبي «المبدئي» لذهاب الأوكرانيين إلى مفاوضات مع روسيا قد تنتج تسويات سلمية وتنهي الحرب عنوان فشل دبلوماسي ذريع وسببا رئيسيا لاستمرار القتال وتصاعد كلفته الإنسانية والمادية. قبل الحرب، تجاهلت واشنطن اعتبارات الأمن القومي الروسي التي تجعل من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ووصول الحلف إلى الحدود الجنوبية للاتحاد الروسي مسألة بالغة الخطورة ومحل رفض قاطع قد يرتب التحرك العسكري لموسكو. وبعد نشوب الحرب، قادت واشنطن ومعها برلين ولندن رفض التفاوض مع موسكو وضغطت على كييف لعدم الذهاب إلى جلسات مفاوضات انطلاقا من أن السلاح الغربي سيغير المعادلات العسكرية على الأرض في الشرق والجنوب الأوكراني ومن أن العقوبات ستزج بالاقتصاد الروسي إلى أتون أزمة خانقة. في البدء مارست واشنطن الاستعلاء على الاعتبارات المشروعة للأمن القومي الروسي، ثم تورطت ومعها كبريات العواصم الأوروبية في حسابات استراتيجية خاطئة ثبت فشلها وارتدّت نتائجها السلبية إلى الأوروبيين الذين يعانون اليوم بشدة مع توقف إمدادات الطاقة الروسية وتراجع نمو اقتصاداتهم بما في ذلك الاقتصاد الألماني الأكثر مركزية أوروبيا والذي انكمش في 2023.
واليوم، أيضا على واقع تصاعد المعارضة السياسية الداخلية في الغرب للمساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية المقدمة لأوكرانيا، إنْ من الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة أو من أحزاب اليمين في الدول الأوروبية، ليس أمام واشنطن وبرلين ولندن وباريس واقعيا وبحسابات السياسة والاقتصاد والمصالح الاستراتيجية غير دفع حلفائهم الأوكرانيين إلى البحث عن تسويات تفاوضية وسلمية للحرب لن تأتي في حدودها الدنيا سوى بقبول حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف الناتو والاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم.