مغادرة العراق قد تكون خيار واشنطن الأكثر حكمة

مغادرة العراق قد تكون خيار واشنطن الأكثر حكمة

من المرجح أن يتم سحب معظم القوات الأمريكية من العراق أو نقلها إلى “إقليم كردستان” دون الإضرار بالمصالح الأمريكية. وفي الواقع، قد يكون لواشنطن نفوذ أكبر في بغداد دون وجود القوات.

رداً على مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في الأردن في أواخر كانون الثاني/يناير، شنت الولايات المتحدة مجموعتين من الغارات الجوية ضد الميليشيات المدعومة من إيران في العراق في وقت سابق من هذا الشهر. وفي حين انتقد البعض في واشنطن الغارات لأنها هدفت برأيهم إلى تحسين الصورة وتم نشرها على نطاق واسع، إلّا أن الضربات – التي استهدفت ميليشيا شيعية عراقية صنفتها الولايات المتحدة كجماعة إرهابية – شكّلت خروجاً كبيراً عن مبدأ ضبط النفس الذي تمارسه إدارة بايدن منذ فترة طويلة تجاه القوات العميلة لإيران في العراق. وبقدر ما كانت الضربات ضد وكلاء إيران في العراق مناسبة وطال انتظارها، فإنها تولد ردة فعل سياسية كبيرة في بغداد، مع عواقب غير معروفة على الوجود العسكري الأمريكي في العراق.

منذ هجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تعرضت القوات الأمريكية وأعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي في العراق وسوريا لما يقرب من 180 هجوماً من قبل الميليشيات المدعومة من إيران والتي تنضوي تحت راية “الحشد الشعبي” – وهي شبكة تضم أكثر من 75 جماعة شبه عسكرية تشكل جزءاً من الجيش العراقي. وفي محاولة لتهدئة التصعيد مع طهران وتجنب التعقيدات الدبلوماسية مع بغداد – وبالنظر إلى عدم وقوع قتلى أمريكيين قبل هجوم 28 كانون الثاني/يناير – مارست إدارة بايدن ضبط النفس. وإذا ردت على الإطلاق، فإنها عادة ما تنتقم بضرب أهداف في سوريا. ومع ذلك، ففي الثاني من شباط/فبراير، ضربت القوات الأمريكية 85 هدفاً في العراق وسوريا، شملت قاعدتين للميليشيات في محافظة الأنبار العراقية، وفي 5 شباط/فبراير اغتالت قائداً كبيراً في “كتائب حزب الله” – الجماعة المسؤولة عن الهجوم في الأردن – في هجوم بطائرة وسط مدينة بغداد.

وأثارت الضربات الأمريكية رد فعل قوي في العراق من الأصدقاء والأعداء على حد سواء. فكما كان متوقعاً، أدان قادة الميليشيات والحلفاء العراقيين لإيران الضربات بشدة. لكن إدانات الحكومة العراقية للولايات المتحدة – وبيانات الدعم لميليشيات “الحشد الشعبي” – كانت شديدة اللهجة أيضاً. فقد وصف مكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني العمليات الأمريكية في الثاني من شباط/فبراير بأنها “عمل عدواني ضد سيادة العراق”، ووصف عناصر “الحشد الشعبي” الذين قتلتهم الولايات المتحدة لدورهم في مهاجمة القوات الأمريكية بأنهم “شهداء”. كما زار السوداني رجال الميليشيات الجرحى في المستشفى، وتمنى لهم “الشفاء العاجل”، وأعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام.

وفي الوقت نفسه، أصدرت الحكومة العراقية بياناً على موقع “إكس” (المعروف سابقاً باسم “تويتر”) اتهمت فيه القوات الأمريكية والتحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” بـ”تعريض الأمن والاستقرار في العراق للخطر”. وذهب الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية اللواء يحيى رسول إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن الإجراءات الأمريكية التي “تهدد السلام المدني” سترغم الحكومة العراقية على “إنهاء مهمة هذا التحالف” الذي “يهدد بجر العراق إلى دائرة الصراع”. وقد رددت هذه المشاعر الكتلة السياسية التي يدور السوداني في فلكها المدعومة من إيران، والمعروفة باسم “الإطار التنسيقي”، والتي طلبت من الحكومة إنهاء وجود التحالف الدولي.

ويقيناً، أن المطالبات بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق ليست جديدة. فمنذ أن تبنت إدارة ترامب حملة الضغط القصوى ضد إيران في عام 2018 والهزيمة الإقليمية اللاحقة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق في عام 2019، كانت ميليشيات “الحشد الشعبي” تستهدف الأفراد الأمريكيين في العراق على أمل إرغامهم على الانسحاب. وقد شهدت الهجمات مراحل مد وجزر – حيث ازدادت بعد اغتيال قائد “الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني، وتضاءلت بعد إعادة تصنيف القوات الأمريكية من قوات “قتالية” إلى قوات “تدريب وتجهيز” – لكن التهديد كان مستمراً.

وفي غضون ذلك، تتعرض سلامة الجنود الأمريكيين – المتواجدين في العراق بدعوة من الحكومة العراقية كجزء من التحالف الدولي المناهض لتنظيم “الدولة الإسلامية” – وكذلك الدبلوماسيين الأمريكيين للخطر، ليس بسبب الميليشيات فحسب، بل أيضاً بسبب تقاعس الحكومة العراقية التي لم تبدِ الإرادة ولا القدرة على حماية الأفراد الأمريكيين. ومن المؤسف أن هذا أمر مفهوم. فميليشيات “الحشد الشعبي” ليست مدرجة على جدول رواتب الحكومة العراقية فحسب، بل يشارك بعض هذه الميليشيات الأساسية – بما فيها الجماعتان “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله” اللتان صنفتهما الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب – في ائتلاف حكومة السوداني كشركاء سياسيين له.

وفي الشهر الماضي أعلن السوداني أن حكومته ستبدأ قريباً مفاوضات مع واشنطن لإنهاء وجود التحالف في العراق. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان السوداني نفسه يفضل انسحاب التحالف أم أن تصريحه يهدف فقط، كما قال أحد مستشاريه لوكالة “رويترز”، إلى «استرضاء الأطراف الغاضبة داخل الائتلاف الشيعي الحاكم». وقبل عام واحد فقط، أعرب السوداني عن قلقه بشأن انتشار الإرهاب من سوريا، حيث لا يزال تنظيم “الدولة الإسلامية” نشطاً، حيث قال في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال”: «نحن بحاجة إلى القوات الأجنبية». ولا شك أن الحرب التي تشنها إسرائيل ضد “حماس” والغارات الجوية الأمريكية الأخيرة على الأراضي العراقية قد رفعت التكلفة السياسية التي يتحملها السوداني لدعم التواجد المستمر للتحالف.

وإذا كان السوداني يريد فعلاً بقاء القوات الأمريكية في العراق، فلديه طريقة غريبة لإظهار ذلك. وفي كانون الأول/ديسمبر، أشادت السفيرة الأمريكية لدى العراق ألينا رومانوسكي بالسوداني وإدارته بعد إلقاء القبض على ثلاثة أفراد مسؤولين عن هجوم بالصواريخ استهدف السفارة الأمريكية. وكانت هذه مناسبة نادرة قام فيها السوداني باعتقال مرتكبي أعمال العنف ضد الأمريكيين.

وبينما انتقد السوداني الضربات الانتقامية الأمريكية الأخيرة في العراق، إلّا أنه لا يحمل على ما يبدو نفس الازدراء لقوات “الحشد الشعبي”، وهم موظفين في الدولة الذين استهدفوا العناصر العسكرية والمدنية الأمريكية لسنوات عديدة، بدعوى أن (وجودها) يتعارض مع رغبات بغداد. وهذه الهجمات غير المبررة التي ينفذها “الحشد الشعبي” هي، على الأقل، جرائم بموجب القانون العراقي – إن لم تكن انتهاكات للسيادة العراقية إلى درجة أن الميليشيات مسؤولة أمام إيران. وعلى الرغم من إحجام الحكومة عن التحرك – بسبب الخوف من التكلفة السياسية أو الانتقام الإيراني – فإن قتلة الجنود الأمريكيين ليسوا محصنين من الانتقام لمجرد أنهم يقيمون على الأراضي العراقية دون عقاب من قبل السلطات المحلية.

لقد أراقت الولايات المتحدة قدراً كبيراً من الدماء وخصصت الكثير من الموارد للعراق، ويظل وضع الدولة العراقية محل اهتمام كبير لواشنطن. وفي شباط/فبراير الماضي، حدد مجلس النواب العراقي موعداً لعقد جلسة للتصويت على استمرار الوجود الأمريكي، لكنه لم يحقق النصاب القانوني للاجتماع. وقد تقرر بغداد في النهاية أن الوقت قد حان لرحيل الولايات المتحدة والتحالف. وبإمكان العراق اتخاذ هذا القرار، وإدارة التهديد المستمر الذي يمثله “تنظيم الدولة الإسلامية” بمفرده. وحتى لو لم تقم حكومة السوداني بطرد قوات التحالف، فمن الواضح أن الوجود العسكري الأمريكي الكبير أصبح غير مقبول.

بعد مرور عشرين عاماً على غزو العراق، حان الوقت لإدارة بايدن لكي تبدأ بالتفكير في أفضل السبل لتقليص البصمة العسكرية الأمريكية في العراق. فالولايات المتحدة لا تستغل وجودها في العراق لصد توسع النفوذ الإيراني في بغداد أو لقطع خط الاتصال بين طهران وميليشيا “حزب الله” الوكيلة لها في لبنان. وبينما تعمل القوات الأمريكية في “كردستان العراق” كحلقة أساسية في الدعم اللوجستي للقوات المناهضة لـ”تنظيم الدولة الإسلامية” في سوريا، فقد لا يُعد هذا الوجود ضرورياً أيضاً إذا سحبت واشنطن وحدتها العسكرية الصغيرة من سوريا. وحتى لو بقيت القوات الأمريكية في سوريا، فقد تتمكن واشنطن من الإبقاء على وجود صغير لها في المنطقة الكردية في العراق لدعم مهمة مكافحة الإرهاب هذه.

وخارج إطار الوحدة العسكرية في كردستان، تتراجع أكثر فأكثر فوائد استمرار الانتشار العسكري الأمريكي في العراق. ويقيناً، أن الانسحاب المتسرع والفوضوي من العراق على غرار ما حدث في أفغانستان من شأنه أن يضر بمصداقية الولايات المتحدة. والأمر سيان بالنسبة للرحيل تحت النيران. ويمكن أن تؤدي مغادرة العراق أيضاً إلى تعزيز التصور الإقليمي الضار الذي مفاده أن الولايات المتحدة تنسحب عسكرياً في ظل التحول نحو آسيا. والأسوأ من ذلك أن السفارة الأمريكية الضخمة في بغداد ستكون أكثر عرضة للهجوم في غياب القوات الأمريكية في الجوار، وهو مصدر قلق حقيقي للغاية بالنظر إلى ميل الحكومة العراقية إلى تجاهل التزامها بموجب “اتفاقية جنيف” بالدفاع عن المنشآت الدبلوماسية.

لكن عملية التحالف ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق اكتملت إلى حد كبير، والوجود المستمر للقوات الأمريكية لا يساهم في منع التقدم الذي تحرزه إيران نحو فرض هيمنتها على العراق. وفي الوقت نفسه، تقدم القوات الأمريكية المتواجدة هناك لإيران والميليشيات المحلية العميلة لها أهدافاً يمكنها مهاجمتها عن قرب – أو ربما بشكل أكثر دقة، رهائن في كل شيء باستثناء الاسم. ومن الممكن أن يساعد وجود بصمة أخف وموحدة في الحد من هذا التهديد، مع الحفاظ على قدرات كافية إذا اختار الجيش العراقي مواصلة المشاركة العسكرية الثنائية، والتي تشمل التدريبات الروتينية المشتركة.

ومن المفارقات أن نقل غالبية القوات الأمريكية بعيداً عن الخطر في العراق قد يحسن وضع واشنطن بنظر الحكومة العراقية الخاضعة للهيمنة الإيرانية – خاصة إذا بقيت القوات في كردستان، حيث لا تزال الولايات المتحدة موضع ترحيب. فعندما تتحرر واشنطن من المخاوف المتعلقة بحماية قواتها، ستتمتع بمجال أكبر للتواصل مع العراق بشأن علاقته مع إيران، وخرق العقوبات، والفساد المستشري. وبينما يبقى استقرار العراق وسيادته أولوية للولايات المتحدة، سيتعين على واشنطن الاعتماد على أدوات أخرى من أدوات السلطة الوطنية – وخاصة النفوذ الاقتصادي – إذا ما أرادت دعم مصالحها في العراق في المرحلة القادمة. إن الإنهاء التدريجي لوجود القوات الأمريكية القائم منذ فترة طويلة أو تقليصه لا يعني انتهاء الانخراط العسكري الأمريكي في العراق، أو انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، أو الإذعان للهيمنة الإيرانية في المنطقة.

ديفيد شينكر