ديالى وكركوك بين صراع الإخوة الأعداء ومآرب القوى الإقليمية

ديالى وكركوك بين صراع الإخوة الأعداء ومآرب القوى الإقليمية

الطريق المسدود الذي توصف به العملية السياسية في محافظتي كركوك وديالى العراقيتين، لم يحصل جراء خلافات انتخابية أو تباين في وجهات النظر في شأن توزيع المسؤوليات بعد إعلان نتائج تلك الانتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات، التي أفرزت عشرات المرشحين الذين ينطبق عليهم توصيف عراقي دارج “وجوه متألفة وقلوب متخالفة”، بعد أن عجزت القوى السياسية المتصارعة عن تخطي عقدها المتشابكة، والخوف المتزايد من احتماليات الاستحواذ على أجزاء جديدة من الأرض والنفوذ في هاتين المحافظتين الملتهبتين منذ عقود، جراء تشابك المصالح وتدخلات العامل الإقليمي، المتمثل بإيران وتركيا، واختلاف الإثنيات وتقاطع المصالح الحزبية والإقليمية فيهما.

المشكلة الأبعد

ويقول العميد السابق لكلية العلوم السياسة بجامعة بغداد نديم الجابري إن “المشكلة في محافظتي كركوك وديالى لا تكمن في نتائج الانتخابات أو التوازنات الحزبية في هاتين المحافظتين، فالمشكلة التي تعوق تشكيل مجلس المحافظة لها أسباب عدة وعميقة أبعد بكثير من نتائج الانتخابات المحلية، فلو كانت القضية مقتصرة على نتائج الانتخابات، لكان ممكناً أن يحصل توافق بين الطرفين، وكان ممكناً أن تتشكل مجالس المحافظات، لكن المشكلة الجوهرية تكمن في تركيبة المحافظتين والصراع الاجتماعي – السياسي الذي يدور حولهما، فلا يخفى أن كركوك محطة لصراع قومي واضح المعالم تمثله أحزاب سياسية من هذا المكون أو ذاك، فهناك صراع على هوية كركوك، هنالك من يتحدث عن أنها جزء من كردستان وهويتها كردية، وهناك من يتحدث عن هويتها التركمانية، وهنالك من يتحدث عن هويتها العربية، وأيضاً اتجاه قليل يتحدث عن عراقية كركوك، الهوية العراقية التي تعلو على الهويات الفرعية، وهذه هي الثقافة المفترض أن تسود في كركوك”.

ويضيف الجابري معلقاً على واقع أزمة محافظة ديالى قائلاً “في محافظة ديالى الصراع مختلف، بل يتعلق بهويتها المذهبية، فهناك من يريد أن يضفي عليها طابعاً شيعياً، وهناك من يريد أن يضفي عليها طابعاً سنياً، وهذا الصراع على الهوية يجعل الطرفين السياسيين الممثلين للمكونات الشيعية والسنية، في حالة من عدم التوافق تقود إلى الصراع على المحافظة، ومحاولة مسك مراكز النفوذ في هذه المحافظة، ولذلك يمكننا القول إن هناك مشتركات ما بين كركوك وديالى من جهة البعد الاجتماعي في الصراع على هاتين المحافظتين، مما تسبب في عدم الوصول إلى توافق سياسي يفضي إلى تشكيل مجالس المحافظتين من دون قدرة أي طرف على الحسم”.

مطامع إيرانية – تركية

ويذهب العميد الجابري أبعد في نظرته إلى أزمة كركوك وديالى، فيقول إن “البعد الإقليمي لا يخفى فهو حاضر أيضاً في مشكلة ديالى وكركوك، فمحافظة ديالى هي أشبه بالمجال الحيوي (كما عرف في الأدبيات النازية)، فهي مجال حيوي لإيران التي تتعاطى معها على أنها جزء من الأمن القومي الإيراني، كما أن هذه المحافظة أيضاً في الحسابات العراقية مهمة للأمن الوطني العراقي لأنها تقع في خاصرة العراق الضيقة، فمن حدود ديالى الدولية حتى حدود بغداد لا يتجاوز الوصول بالنقل البري مدة ساعتين، فالعامل الإقليمي حاضر وضاغط على الأوضاع في ديالى” .

تربص تركي بكركوك

ويضيف المتحدث ذاته أن “العامل الإقليمي أيضاً حاضر في مشكلة كركوك أيضاً، ويبدو واضحاً الدور التركي الذي ركز نشاطه بالعراق في هذه المحافظة، فهو يعتقد أنها تدخل في ما يعرف بولاية الموصل التي ضمت إلى العراق في عام 1925، فهنالك مساع تركية لإعادة ولاية الموصل، وطبعاً محور ولاية الموصل هو كردستان، والموصل الحالية، وكركوك، لكن الأتراك يعدون كركوك بمثابة المحور وهي المحافظة الغنية بالثروة النفطية. من هنا نخلص بأن العامل الإقليمي التركي في كركوك مؤثر في عرقلة الوصول إلى توافق في هذه المحافظة”.

محصلات الدولة الهشة

محصلات التاريخ الحديث والمعاصر في العراق ما زالت تضغط على مجمل الفعاليات العراقية التي تلت عام 2003 فالدولة العراقية باتت هشة، وغير قادرة على حسم ملفات كثيرة، ومحكومة بعوامل تتخطى الدستور المصوت عليه بالغالبية المشاركة في عام 2005، واعتراضات مكونات أخرى، ووجدت نفسها في سياق جديد للحكم، أعقب حقبة الديكتاتورية بعيد عام 2003، بعيد حرب طائفية شرسة اشتركت فيها وأججتها دول إقليمية، تقاتلت لمد نفوذها في العراق، مستغلة الفراغ السياسي الكبير، الذي خلفه السقوط السريع للنظام السابق، وحل المؤسسات الرئيسة (الحارسة) للدولة العراقية كالجيش وأجهزة الأمن، مما سهل الاختراق الشامل للبنية المجتمعية العراقية. وزاد الطين بلة، فساد الحكم الجديد، الذي انهمك في الاستحواذ والانتقام ومنح الرتب لغير المؤهلين في إدارة الدولة، مما أفرز تناقضات يدفع ثمنها المجتمع الحالي بعدما نهبت الدولة، وحلت أجهزتها الرئيسة، في سابقة غير معتادة في الأعراف الدولية.

مسؤولية الآباء المؤسسين

وتأتي أزمة ديالى وكركوك في سياق “ضرس الحصرم” بعد خطايا الآباء المؤسسين للدولة العراقية الحالية، التي تتشكل من جديد، ولكن خارج منطق تاريخ العراق وقيمته كدولة مركزية قوية، ناهيك بتناحر وتقاطع المصالح السياسية والمالية، وشراهة الاستحواذ على الموازنات وعائدات النفط، التي تشكل محركاً شرساً لفرض النفوذ.

أزمة المكونات

ويرى رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري أن “تأخر كركوك وديالى عن حسم موضوع توزيع المسؤوليات، في مجلس المحافظة واختيار المحافظ، يعود إلى خصوصية هاتين المحافظتين، إذ إنهما مكونتان من قوميات مختلفة، وتضمان أحزاباً متناحرة على المال والسلطة، تصطدم مشاريعها السياسية بصورة كبيرة جداً، إضافة إلى عدم قدرة أي من الأحزاب التي خاضت الانتخابات المحلية على تحقيق غالبية يمكن أن تؤهلها للاختيار، فضلاً عن أن الأحزاب السياسية تعيش صراعاً في ما بينها، ففي ديالى نلاحظ أن الإطار التنسيقي الشيعي غير متفق، ومنقسم في داخله لذلك لم يتحقق الحسم، والحال في كركوك ليس أفضل، على رغم وجود شبه اتفاق ما بين الاتحاد الوطني الكردي (طالباني) والحزب الديمقراطي الكردي (بارزاني)، لكن الخلافات ما زالت مؤثرة في مسألة عدم حسم الاختيارات، مع الأخذ في الاعتبار الصراعات ما بين المكونات السياسية، وهي مكونات مجتمعية، وهذا الصراع جذوره عميقة لم تحل حتى الآن، فلا تزال أزمة الثقة بين المكونات والأحزاب السياسية حاضرة ويمكنني القول إن كركوك محافظة خلاف عقائدي، فهي باتت تعد جزءاً من عقيدة سياسية ومن ثم من الصعب على القوى أن تتنازل عن عقيدتها السياسية، فهي بالنسبة إلى الكرد قدس الأقداس، مثلما يصرح الاتحاد الوطني الكردي، والعرب ما زالوا يعتقدون أنهم يخوضون صراع وجود في كركوك ومن ثم التخلي عن منصب المحافظ وبعض المسؤوليات يؤذي وجودهم، كذلك الصراع العربي – الكردي أمر واضح”.

تدخل إيراني – تركي

لكن التداخل مع الأجندات الخارجية يشكل جزءاً من التعقيدات الحالية، فديالى مهمة استراتيجياً من وجهة النظر الإيرانية، إذ تدفع إيران باتجاه صعود حلفائها المحليين، وفي كركوك أيضاً هناك تداخل تركي، فأنقرة ما زالت تنظر إلى كركوك على أنها جزء من مجالها لحماية التركمان. وهذا الصراع بمجمله مع التمدد الإقليمي على مستوى كركوك وديالى أسهم في عملية التأخير وعدم الحسم في المحافظتين.