أدركت الدول العربية يقينا أن التوسع الإسرائيلى الصهيونى، والذى تحصنه المساعدات العسكرية والمالية الأمريكية والأوروبية غير المحدودة، يستهدف إعادة تشكيل كل من الوطن العربى والشرق الأوسط بصورة تهدد الحقوق العربية والسيادة العربية على الأرض والموارد، وقبل الحديث عن رد الفعل العربى، وهو آت، علينا أن نوضح الحقائق الآتية:
فمن ناحية ولأول مرة وبعيدا عن نظريات المؤامرة تتضح استراتيجية إسرائيل التوسعية غير المحدودة، سواء فى وثائق رسمية أو على لسان رئيس وزراء إسرائيل وكذلك عدد كبير من وزرائه والكنيست وكل استطلاعات الرأى العام، واتضح للجميع أن هناك توافقا فكريا وسياسيا داخل إسرائيل، وبين غالبية «يهود» العالم على حتمية الإبادة الشاملة للشعب الفلسطينى وإجبار من يفلت منها على الرحيل النهائى خارج غزة والضفة الغربية بهدف مد سيادة الدولة اليهودية الخالصة إلى كامل القطاع والضفة، كخطوة تليها خطوات السيطرة على أراضى الدولة العربية المجاورة بحجة تأمين سلامة الإسرائيليين، الأطماع التوسعية الإسرائيلية الصهيونية تطال الأردن، ولبنان، وسوريا، ومصر، والعراق وربما السعودية.
ومن ناحية أخرى، تسعى الدول الأوروبية الرئيسية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وكذلك الولايات المتحدة إلى دعم نفوذها السياسى والاستراتيجى بتوظيف إسرائيل كعامل تهديد للدول العربية أو خلق أعداء أشد خطورة مثل إيران، بقصد خلق حالة اعتماد دائم على تلك الدول عسكريا واستراتيجيا ومنح تواجدها العسكرى على الأراضى العربية أو المياه العربية شرعية وقبولا، بينما تتمثل أهدافها فى أهمية استمرار تواجدها وممارسة نفوذها والحصول على الطاقة سواء النفط أم الغاز الطبيعى بصورة مستدامة، وكذلك سد الطريق أمام روسيا والصين للتواجد فى المنطقة.
وثالثا: ديناميات النظام الدولى الراهن تسمح للغرب بتحقيق مآربه، وتأجيل أو عرقلة أية خطوات لتغيير بنية النظام الدولى، فروسيا مشغولة فى حربها ضد أوكرانيا، والصين تعطى الأولوية لتأمين بحر الصين الجنوبى ومحاولة ضم تايوان إلى أرض الصين الأم. ورابعا: فإن هناك تحالفا وتماسكا قويا بين إسرائيل والمسيحية الصهيونية بصورة تدفع إلى توظيف إعلام الطرفين ومواردهما المالية لضمان وتأمين استراتيجية إسرائيل دون تردد أو خجل وقد ابتدعت المسيحية الصهيونية، وإسرائيل والجماعات اليهودية فى العالم مسألة «معاداة السامية» للتعليم على من يعادى خطط إسرائيل التوسعية، وهى تمثل اتهاما يصل إلى حد تدمير الشخصية character annihilation وللابتزاز السياسى، ولنتذكر ما حدث لرئيسة جامعة هارفارد وجامعة بنسلفانيا وغيرهما حينما استدعيتا للمساءلة فى الكونجرس الأمريكى، واستقالتا من الجامعات، وغيرهما الكثير لمجرد أنهما دافعتا عن حق الطلاب وحريتهم فى التعبير طبقا للدستور، وسحب المتبرعون «اليهود» تبرعاتهم من الجامعات، هذا التحالف يصب فى صالح إسرائيل ويهدد مصالح العالم وخصوصا العرب.
• • •
فى اللحظات المفصلية فى تاريخ الأمم وحينما تتداعى عليها مصادر التهديد، تلجأ الدول إلى قرارات غير عادية حماية لأمنها القومى وصيانة لجودة الحياة لمواطنيها ومواطناتها وحرصا منها على مواردها وأراضيها، فقد تتجه الدول إلى إنشاء تحالفات عسكرية أو كيانات اقتصادية مشتركة أو تجمعات سياسية لتحقيق أهدافها، فقد أنشأت أوروبا بمساعدة الولايات المتحدة عام 1949 حلف الأطلنطى، ثم أنشأت السوق المشتركة والتى تحولت إلى الاتحاد الأوروبى، وأنشأ الأمريكيون الولايات المتحدة عام 1776 لتحل محل المستعمرات البريطانية والفرنسية ولدحر الولايات الانفصالية فى الجنوب، وأنشأت دول عديدة مثل روسيا ونيجيريا والإمارات وغيرها نظما فيدرالية إيمانا منها بأهمية وجود سلطة مركزية قوية وعصرية تحقق المصالح العليا للدولة.
وفى الأزمة الأخيرة التى واجهت مالى والنيجر وساحل العاج ولردع أية محاولات للتدخل العسكرى ضدها، دخلت أولا فى تحالف عسكرى لدول الساحل الإفريقى، وهو تحالف أقرب إلى الحلف العسكرى لتحقيق الأمن الجماعى للدول الثلاث، ثم اتفقت لاحقا على إنشاء نظام كونفدرالى يجمع ما بين التنسيق السياسى والعسكرى مع احتفاظ كل دولة بسيادتها الكاملة على أراضيها وحقها التام فى اختيار نظامها السياسى، وهذه أهم سمات النظام الكونفدرالى، والذى يختلف عن النظام الفيدرالى حيث يكون هناك جيش واحد وسياسة خارجية واحدة وحكومة مركزية تدير اقتصادا مركزيا مع الدول الأخرى.
وفى ضوء ما سبق وفى خضم التهديدات الإسرائيلية باستمرار الإبادة الجماعية والتهديد بالتهجير القسرى، وتصاعد العمليات الإرهابية فى باب المندب واحتمالات امتدادها إلى بحر العرب والخليج العربى بما يهدد ليس فقط التجارة الدولية ولكن كذلك المرور السلمى للتجارة العربية إلى أوروبا وآسيا، وخشية أن تفرض على العرب ترتيبات إقليمية غير مواتية، وحرصا على عدم فتح أية فجوة بين الشعوب العربية وحكوماتها، فإن الوقت قد حان لكى تتخذ الحكومات العربية مجتمعة أو كمجموعات خطوات فعالة تحدد بها موقفها الوطنى والقومى إزاء كل ذلك، وتتمثل الخطوة الاستباقية فى إعلان «كونفدرالية الدول العربية» Confederation of Arab States (CAS) بين مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن والعراق كمرحلة أولى، والكونفدرالية تشمل التنسيق السياسى والعسكرى والأمنى، ووضع لبنة نظام إقليمى عربى فاعل وديناميكى، وهو نظام مفتوح لكل الدول العربية للانضمام إليه مع احتفاظ كل دولة بسيادتها واستقلالها عن بقية الأعضاء.
من نافلة القول التشديد على أهمية إنشاء كونفدرالية الدول العربية والتى لا تتعارض مع الترتيبات العربية المستقرة كجامعة الدول العربية ومؤسساتها أو الاتفاقات الثنائية أو الثلاثية القائمة، ومن المعلوم من خلال التجارب الدولية الناجحة أنه ممكن أن تتحول الكونفدرالية إلى اتحاد فيدرالى أو تظل على ما هى عليه إلى أن يتم زوال أو احتواء التهديدات الخارجية لأعضائه. وهكذا فإن التنسيق الأمنى والعسكرى فى السياسة الخارجية للكونفدرالية يصب فى المصالح الوطنية لكل عضو وللأعضاء مجتمعين، وبطبيعة الحال يتفق الأعضاء المنشئون على مقر/ مقار مؤسسات الكونفدرالية وتحديد مسئوليات الإدارة والتنسيق واجتماعات قمة القادة للاتفاق على استراتيجية مواجهة التهديدات وتحقيق الأمن المشترك للأعضاء.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الشروق المصرية