التعاون العسكري-الاقتصادي بين الصومال وتركيا: الحيثيات والمآلات

التعاون العسكري-الاقتصادي بين الصومال وتركيا: الحيثيات والمآلات

حركت الاتفاقية الإطارية العسكرية-الاقتصادية الموقعة بين الصومال وتركيا نحو إعادة تشكيل طبيعة العلاقات المستقبلية بين البلدين، دافعًا إلى علاقات أكثر عمقًا وإستراتيجية، باعتبارها ضوءًا أخضر من الصومال لتركيا لتعزيز تموضعها العسكري والاقتصادي في منطقة القرن الإفريقي، إيذانًا بفترة جديدة تخول تركيا أن تصبح شرطي المنطقة وإرسال أساطيلها البحرية لحماية سواحل الصومال الممتدة من جيبوتي إلى كينيا، إلى جانب الاستفادة من الاقتصاد الأزرق ضمن إستراتيجية الصومال الهادفة لاستغلال مواردها في البحر الأحمر والمحيط الهندي، بالتعاون مع أميركا وبريطانيا وتركيا، سيما مشاريع تنقيب البترول والنفط التي لم تستغل بعد، والتي ستنطلق احتمالًا في النصف الثاني من هذا العام، كما أن توقيت هذه الاتفاقية تزامن مع فترة حرجة للغاية تشهد فيها منطقة القرن الإفريقي صراعات سياسية وأمنية بين أطراف داخلية وأخرى خارجية لها اتصال مباشر يما يجري في المنطقة من متغيرات وتحركات تعيد تشكيل نمط العلاقات والتحالفات من جديد.

في هذه التقرير، نسلط الضوء على أبعاد الاتفاقية الأمنية والاقتصادية الموقعة بين مقديشو وأنقرة، وتأثيراتها على دول الجوار، وأسبابها ومضامينها، واستشراف مستقبل التوجهات في المنطقة، وإمكانية أن تعيد تركيا تشكيل جيوبوليتيك القرن الإفريقي، كلاعب وشريك قوي لدول المنطقة، يمكن أن يلعب أدوارًا متعددة في نزع فتيل الصراعات، وإعادة التوازن بين القوى الدولية التقليدية والصاعدة في القرن الإفريقي.

التعاون العسكري بين الصومال وتركيا: إطار تاريخي
لم يكن الحضور العسكري التركي في الصومال وليد اللحظة وكذلك التحالفات الجديدة بين مقديشو وأنقرة في خضم المتغيرات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي في السنوات الأخيرة، بل إن حضورها تجسد في مشاركة أنقرة في مهمة بعثة الأمم المتحدة في الصومال بقيادة واشنطن، عام 1992، بعد انهيار الدولة المركزية؛ حيث أرسلت تركيا قوات قوامها 300 من المشاة وثلاث سفن حربية إلى مقديشو، بقيادة الجنرال التركي “جيفيك بير” بين عامي 1993-1994، لكن بعد فشل مهمة بعثة الأمم المتحدة بانسحاب البعثة الأممية من الصومال عام 1995، عززت تركيا قوتها الناعمة للحفاظ على نفوذها في الصومال من خلال التركيز على مشاريع الإغاثة من خلال هيئة I.H.H التركية التي كانت -ولا تزال- تنفذ مشاريع إنسانية من خلال هيئات إغاثية محلية(1).

ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002، والشروع في تطبيق الإستراتيجية التركية نحو إفريقيا باعتبار أن 2005 سيكون عامًا لإفريقيا، انطلاقًا من مقولة: إن تركيا “دولة أفروآسيوية” تبحث عن علاقات متينة مع دول القارة، من خلال الاعتماد على ثلاث إستراتيجيات، تتضمن إقامة العلاقات الثنائية مع الدول الإفريقية، وتنشيط دبلوماسية القمم، والمشاركة في محافل المنظمات الإقليمية الإفريقية. ولهذا تمكنت أنقرة من الانتشار في إفريقيا، وتقيم علاقات دبلوماسية مع 49 دولة من أصل 54 دولة، ومثَّلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أوردغان إلى مقديشو عام 2011، منعطفًا تاريخيًّا في العلاقات السياسية بين البلدين، ومهدت الطريق لحضور تركي قوي في الصومال، من خلال المساهمة في تشييد مرافق البنية التحتية وإدارة المرافق الحيوية للدولة خاصة الميناء والمطار، إلى جانب مشاريعها الإغاثية والتنموية التي ناهزت مليار دولار أميركي(2).

وللحفاظ على هذا الإرث المزدوج بالسياسة والاقتصاد في الصومال، تولي أنقرة اهتمامًا كبيرًا للمجال الأمني؛ حيث تلعب دورًا كبيرًا في جهود فرض الاستقرار الأمني بدعم المؤسسة العسكرية (الجيش والشرطة والمخابرات)، وأنشأت معسكرًا لتدريب الجيش الصومالي، إلى جانب المشاركة في عمليات الجيش الصومالي لتحييد مسلحي حركة الشباب في وسط البلاد وجنوبها، بالتنسيق مع الجيش الصومالي، خاصة فرقة جورجور المدربة عسكريًّا من قبل ضباط أتراك، وتوفر مسيرة بيرقدار غطاءً جويًّا للجيش وتنفذ أحيانًا ضربات وغارات جوية مميتة ضد أهداف محددة تابعة لحركة الشباب.

ويلخص الجدول التالي، التسلسل التاريخي للاتفاقيات الأمنية الموقعة بين مقديشو وأنقرة منذ عام 2009(3).

#

تاريخ توقيع الاتفاقية

نوعية الاتفاقية

مكان توقيع الاتفاقية

1

17 أبريل/نيسان 2009

اتفاقية التعاون الفني

أنقرة

2

22 مايو/أيار 2010

اتفاقية التعاون في مجال التدريب العلمي في المجال العسكري

إسطنبول

3

13 أبريل/نيسان 2012

اتفاقية التعاون في مجال التدريب العسكري

أنقرة

4

25 يناير/كانون الثاني 2015

اتفاقية التعاون في مجال الصناعات الدفاعية

مقديشو

5

3 يونيو/حزيران 2016

اتفاقية التعاون في المجالين الصحي والعسكري

مقديشو

6

8 فبراير/شباط 20224

اتفاقية التعاون العسكري والاقتصادي

أنقرة

واللافت أن الحضور العسكري التركي في الصومال تنامى بشكل ملحوظ بعد افتتاح القاعدة العسكرية التركية في مقديشو بمساحة 4 كيلومترات وبلغت تكلفة إنشائها 50 مليون دولار أميركي، ورأت النور في 30 سبتمبر/أيلول 2017، بحضور وزير الدفاع التركي السابق، خلوصي أكار، ورئيس الحكومة الفيدرالية الأسبق، حسن علي خيري، حيث تتركز قيادة فرقة العمل التركية وقوامها 300 فرد ومهمتها الأساسية تدريب الضباط وضباط الصف الصوماليين؛ حيث من المخطط تدريب ما لا يقل عن 10 آلاف جندي صومالي سنويًّا(4)، كما تشكل المسيرات التركية بيرقدار تي بي 2 ضغطًا عسكريًّا يهدد وجود حركة الشباب، التي لم تعد قادرة على مواجهة القوات الصومالية في المواجهات المفتوحة، بفضل دخول المسيرات الأجنبية خط النار باستهدافها معاقل وحصون حركة الشباب، وشلَّت أيضًا قدرة تنقلاتها العسكرية بين مسلحيها، هذا بالإضافة إلى جمع البيانات والمعلومات عن تحركات “الشباب” خاصة أثناء الاشتباكات، هذا بالإضافة إلى توفير تدريبات عسكرية لفرق الشرطة والأجهزة الأمنية في مقديشو(5).

ونظرًا لهذا الحضور العسكري فإن أنقرة حريصة على المساهمة في دعم واستقرار الصومال أمنيًّا وسياسيًّا وتعتبر عنصرًا محوريًّا في المجموعة الخماسية بشأن الصومال ((QUINT التي تضم أميركا وبريطانيا وقطر والإمارات وتركيا، والتي تعقد اجتماعات دورية في عواصم هذه الدول لبلورة التطورات والمستجدات الراهنة في الساحة الصومالية، وفي ظل تزايد الاهتمام الدولي والإقليمي بشأن ملف الصومال، تمسك أنقرة زمام المبادرة في دخول شراكة أمنية وإستراتيجية مع مقديشو، فما أهمية الاتفاقية الإطارية الأمنية والاقتصادية؟ وما دلالات توقيتها وبنودها؟

الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة: توقيتها ومضامينها وأسبابها
في 8 من فبراير/شباط الماضي، وقَّع وزير الدفاع التركي، يشار غولر، ونظيره الصومالي، عبد القادر محمد نور، اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي في اجتماع ثنائي في العاصمة أنقرة، وهي الاتفاقية التي وصفت بـ”التاريخية” وتعكس تطور العلاقات الثنائية بين البلدين، وتهدف إلى تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي. وفي وقت لاحق، صادق البرلمان الصومالي والحكومة الفيدرالية على الاتفاقية الإطارية بين البلدين، باعتبارها مكسبًا جديدًا للصومال في جهودها لحماية سواحلها من الاعتداءات الخارجية، كما وقَّع عليها الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، وأكد في مؤتمر صحفي أن الاتفاقية الموقعة مع تركيا لا تستهدف طرفًا ثالثًا بعينها، مشددًا على أن الصومال لن تكون ساحة للحرب بالوكالة بين أطراف إقليمية، و”أن تركيا ستنشئ قوة بحرية مشتركة، وسيقوم الأتراك بحماية بحارنا لمدة عقد في إطار هذه الاتفاقية، وبعد عقد من التعاون، سيكون لدينا قوة بحرية لحماية سواحلنا، ولا يتضمن الاتفاق أي غرض عدائي تجاه إثيوبيا أو أي دولة أخرى”(5).

اللافت، أن الاتفاقية العسكرية-الاقتصادية بين البلدين لم تر النور بعد، ويجادل بعض المراقبين، أن الاتفاقية طابعها اقتصادي وليس عسكريًّا، وتقضي بأن تستغل تركيا 30 في المئة من الثروة البحرية الصومالية في مقابل توفير الحماية الأمنية لسواحلها الممتدة لأكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، من جيبوتي إلى كينيا.

ويمكن الإشارة إلى أهم البنود التي تحملها الاتفاقية في النقاط التالية(6):

إدخال الموارد البحرية في الاقتصاد.
تخطيط وتنفيذ العمليات الجوية والبرية والبحرية المشتركة، في حال الحاجة للدفاع فيما يتعلق باستخدام هذه الموارد.
بناء السفن وإنشاء الموانئ والمرافق وتشغيلها، واتخاذ الترتيبات القانونية اللازمة لذلك، وتوحيد قوانين الملاحة البحرية بين البلدين.
اتخاذ تدابير أحادية ومشتركة لمكافحة جميع أنواع التهديدات في المناطق البحرية الخاضعة للسيادة، مثل “الإرهاب” والقرصنة والنهب والصيد غير القانوني والتهريب.
بناء منشآت أحادية ومشتركة وإقامة مناطق أمنية.
تقديم الدعم التدريبي والتقني والمعداتي للجيش الصومالي.
إنشاء وإدارة منشآت أمنية ساحلية.
تطوير وتحديث القوة البحرية.
منع التلوث البحري.
وتأتي هذه الاتفاقية الموقعة بين البلدين، والتي لم يصادق عليها البرلمان التركي بعد، عقب تلميحات وتوقعات عديدة أشارت إلى أن الصومال سيتجه إلى أحضان تركيا لدخول معاهدة أو اتفاقية أمنية مشتركة لضمان السيادة على سواحله، ومواجهة المخططات الإثيوبية وبعض الدول الإقليمية التي تهدف إلى إخلال طبيعة التوازنات في القرن الإفريقي، من خلال تعزيز جهود إثيوبيا من وراء الستار لإيجاد منفذ بحري في المياه الدافئة في البحر الأحمر، إلا أن الاتفاقية الإطارية العسكرية والاقتصادية ربما ستخلق نوعًا من التوازن وتموضعًا تركيًّا في المنطقة وذلك في إطار الوجود العسكري لدول حلف “الناتو” من جهة والاتفاقية الموقعة مع مقديشو من جهة ثانية.

بعد توقيع مذكرة التفاهم الموقعة بين صوماليلاند وإثيوبيا لم يدخر الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، جهدًا دبلوماسيًّا ولا سياسيًّا لإيجاد شركاء حقيقيين في قضية الدفاع عن سيادة بلاده، وتوجه إلى مصر وأجرى لقاء مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأكدا على ضرورة حماية سيادة واستقلال الصومال، كما زار الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، إريتريا وقطر والإمارات، بحثًا عن حليف جدير بالثقة، وأخيرًا استجابت أنقرة لطلب مقديشو، وأعطى الرئيس رجب طيب أردوغان شخصيًّا تعليمات بإعداد الاتفاقية؛ حيث أصدر توجيهات لوزارتي الدفاع والخارجية بضرورة توقيع اتفاقية عاجلة للتعاون الدفاعي والاقتصادي مع الصومال والمنطقة، لتجنب حدوث حالة فوضى وتدهور الوضع الحالي، وقد أُعدَّت الاتفاقية في غضون 10 أيام وتم توقيعها بعد ذلك(7).

ويمكن سرد أهم الأسباب الكامنة التي دفعت الصومال لتوقيع هذه الاتفاقية مع تركيا في النقاط التالية:

توقيع مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا باعتبارها خطوة للاعتراف بأرض الصومال كيانًا مستقلًّا وهذا ما أغضب حكومة مقديشو.
ولوج إثيوبيا إلى المياه الدافئة وضمان منفذ بحري في البحر الأحمر في المياه الصومالية في مقابل الاعتراف بصوماليلاند، ما يحدث خللًا في التوازنات الإقليمية في جيوبوليتيك القرن الإفريقي، ويهدد الأمن القومي العربي.
تزايد هجمات الحوثيين على السفن المحملة بالبضائع في البحر الأحمر، إلى جانب تهريب الأسلحة من الحوثيين إلى جماعات متشددة في الصومال.
المخاوف المتزايدة من حدوث اضطرابات أمنية في المياه الصومالية إثر عودة نشاط القراصنة الصوماليين ما يهدد التجارة الدولية العابرة في باب المندب التي تعد 5 في المئة من التجارة العالمية.
خلفيات اتفاقية التعاون الموقعة بين البلدين
وعلى الرغم من أن الاتفاقية الإطارية جاءت في توقيت حساس جدًّا تمر به منطقة القرن الإفريقي، سيما الأزمة السودانية، والصراعات الإثنية في إثيوبيا، خاصة بعد تفاقم المواجهات المسلحة بين الجيش الإثيوبي ومسلحي جبهة “فانو” الأمهرية، هذا فضلًا عن تصاعد هجمات حركة الشباب الموالية للقاعدة في الصومال، وتتجدد المخاوف من نزاع مسلح بين الصومال وإثيوبيا، إذا اتجهت الأخيرة نحو تصعيد ملف مذكرة التفاهم مع صوماليلاند والمضي في تحويل هذه المذكرة إلى اتفاقية ملزمة والتحرك نحو إنشاء قاعدة عسكرية في بربرة. ويبدو أن الاتفاقية التركية-الصومالية ستثير مزيدًا من الشكوك والتداعيات حول مدى قدرة تركيا على الالتزام ببنود هذه الاتفاقية والدفاع عن سواحل الصومال من المخاطر الأمنية.

ويمكن أن تترك هذه الاتفاقية تأثيرًا على توازن القوى والمصالح الإقليمية والدولية في منطقة القرن الإفريقي، ومن المتوقع في المدى المنظور أن يكون لها تداعيات مباشرة على الفاعلين واللاعبين الدوليين في المنطقة، ونلخص تأثيراتها في البنود التالية:

طمأنة الصومال: تمثل هذه الاتفاقية نقلة نوعية في تعزيز شراكتها الأمنية والاقتصادية مع تركيا التي تحظى بحضور تُحسد عليه في الصومال، سيما منذ عام 2011، واستغلالها الفرص الاقتصادية والاستثمارية في مقديشو، وهو ما مكنها من حجز أسبقية الحضور والتأثير في المشهد الصومالي أمنيًّا وسياسيًّا. وحظيت الاتفاقية الموقعة بين البلدين بتأييد كبير من المجتمع الصومالي، ونظمت بلدية مقديشو تظاهرة في ملعب “استاديو كونس” تعبيرًا عن تأييدهم للمواقف التركية تجاه الصومال(8).
التوجس الإثيوبي: مع إعلان الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة، وجد هذا الخبر صداه في دوائر النخبة الإثيوبية كما لفتت هذه الاتفاقية انتباه الصحافة الإثيوبية؛ حيث علقت إذاعة مستقبل أورميا للأخبار على الاتفاقية بمزيج من علامات التساؤلات والاستنكار حول مستقبل الاستثمارات التركية في إثيوبيا، كونها -أي تركيا- ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا بعد الصين، كما أن هذه الاتفاقية تحول دون سداد أديس أبابا ديونها للصين التي تنصب إستراتيجية “فخ الديون” للدول الإفريقية، وتعتبر إثيوبيا من أكبر المدينين في المنطقة، وفشلت في سداد ديونها وفق إحصاءات البنك الدولي عام 2023، ولهذا سعت الصين إلى ممارسة الضغوط على أديس أبابا لتوقيع مذكرة تفاهم مع صوماليلاند تحصل بموجبها إثيوبيا على قاعدة عسكرية ومنفذ بحري في المياه الصومالية، لتفتح لإثيوبيا الطريق للتنقيب عن البترول في مياه الصومال الإقليمية كي تتمكن من توفير ثروات ضخمة تمكِّنها من سداد ديونها عينيًّا للصين(9).
الانزعاج الإماراتي: تعد دولة الإمارات العربية المتحدة شريكا إستراتيجيًّا بالنسبة للصومال، خاصة في ما يتعلق بالقضايا الأمنية؛ حيث تتولى مهمة تدريب الجنود الصوماليين في مراكز تدريب عسكرية في مقديشو وفي إقليم بونتلاند، لكن مما لاشك فيه أن الحضور العسكري التركي والإماراتي في الصومال كان مثيرًا للتوترات والجدل منذ عام 2017، قبل أن تضطر أبوظبي إلى وقف تعاونها العسكري مع مقديشو إبان الأزمة الخليجية عام 2018، لكن استؤنفت تلك العلاقة منذ إعادة انتخاب حسن شيخ محمود رئيسًا للصومال لولاية ثانية، في مايو/أيار عام 2022، ووقَّع البلدان على اتفاقية أمنية في أبوظبي عام 2023(10)، لكن لم يصادق عليها البرلمان الصومالي بعد، ولهذا فإن السياسة الإماراتية تجاه الصومال يلفها كثير من الشكوك والغموض -وفق متابعين- حيث إنها توفر المساهمات والدعم العسكري وتحديدًا اللوجستي للحكومة الفيدرالية في مقديشو، وفي المقابل تعتبر إثيوبيا شريكًا إستراتيجيًّا وأحد مفاتيح ضمان بقائها ومد نفوذها في القرن الإفريقي، ولديها أيضًا تعاون وثيق مع صوماليلاند إذ تعمل شركة موانئ دبي على إدارة ميناء بربرة دون موافقة من الحكومة المركزية، ولهذا يمكن أن تشكل الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة عقبة أمام مستقبل الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا (تقدر بنحو 3 مليارات دولار أميركي) في حال فشلت جهود إثيوبيا في الوصول إلى المياه الدافئة وهو ما يمثل ضربة مزدوجة وذات أبعاد متعددة بالنسبة للإمارات وإثيوبيا في آن واحد(11).
تناسق الحضور التركي الأميركي: مع تزايد المخاوف من توسع دائرة الحرائق في البحر الأحمر وانفراط عقد الأزمات في باب المندب نتيجة هجمات الحوثيين والقراصنة على السفن المحملة بالبضائع المتجهة إلى تل أبيب، إلى جانب الحضور الصيني والروسي في المنطقة، تتجه المقاربة الأمنية التركية والأميركية في المنطقة نحو تنسيق الأدوار في القرن الإفريقي، وللتأكيد على ذلك فإن واشنطن وقعت مذكرة تفاهم مع مقديشو بعد الاتفاقية الإطارية بين الصومال وتركيا، لبناء خمس قواعد للجيش الصومالي خاصة وحدة “دنب”. ولهذا فإن سباق دبلوماسية التعاون الأمني مع الصومال وبناء القواعد العسكرية بين أنقرة وواشنطن محموم راهنًا، هذا فضلًا عن وجودهما العسكري في البحر الأحمر، ضمن إطار عضويتهما كأقوى عضوين في حلف شمال الأطلسي “الناتو”(12).
مآلات الاتفاقية العسكرية والاقتصادية
لا شك أن النفوذ التركي في الصومال منذ عام 2011 كان يثير مخاوف لدى بعض الدول الخليجية، سيما قبل التطبيع التركي الأخير مع عواصم خليجية عدة في الفترة الأخيرة، ورأت دول خليجية، من بينها السعودية والإمارات والبحرين إلى جانب مصر، هذه الانعطافة التركية بمنزلة تهديد للأمن القومي العربي، كما دفع هذا التوجه التركي نحو الصومال، الذي يعتبر عمقًا إستراتيجيًّا خليجيًّا، إلى تهافت تلك الدول نحو افتتاح سفاراتها في مقديشو، بالإضافة إلى أن إقدام أنقرة على تعزيز قدرات الجيش الصومالي وتدشين قاعدة عسكرية تركية في العاصمة مقديشو تخرِّج 10 آلاف جندي سنويًّا أقلق أيضًا دول الجوار التي كانت تعتبر الصومال ساحة لتصفية حساباتها خاصة بين أسمرة وأديس أبابا منذ عام 2006. ولهذا، فإن هذه الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة تتزامن أيضًا مع رفع حظر السلاح المفروض على الصومال من الأمم المتحدة، أواخر ديسمبر/كانون الأول عام 2023، مما يثير قلق قوى دولية وإقليمية ضالعة في أزمات الصومال، لكن بإمكان تركيا أن تلعب دورًا مهمًّا في كبح تهديدات أمنية وفوضى خلاقة تعصف بدول القرن الإفريقي مجددًا.

ويمكن فهم بعض ملامح مستقبل الاتفاقية الإطارية بين البلدين فيما يلي:

لعبة التنافس الدولي في القرن الإفريقي: وصفت مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وصوماليلاند بأنها تطور مهم، يزيد اشتعال التنافس الدولي في المنطقة، التي ما إن تهدأ عواصفها حتى تتجدد من جديد، وذلك إبان التوصل إلى اتفاقية “بريتوريا” في جنوب إفريقيا عام 2022 بين الأطراف الإثيوبية لإخماد الحرب في إقليم تيغراي، سرعان ما انزلق السودان إلى دائرة الحرب منذ أبريل/نيسان عام 2024، هذا فضلًا عن الأزمة الأمنية في الصومال المتمثلة في الحرب المستعرة بين الحكومة الفيدرالية وحركة الشباب، وكذلك هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، ووجود قواعد عسكرية في جيبوتي لكل من الصين وأميركا واليابان وفرنسا، يضاف إلى ذلك التوجه التركي نحو هذه المنطقة بإبرام اتفاقيات أمنية مع الصومال وجيبوتي، بالتنسيق مع قوى دولية مثل الولايات المتحدة الأميركية وإقليمية مثل إثيوبيا، وهو ما يخلط الأوراق والحسابات الجيوسياسية في المنطقة التي تواجه تنافسًا دوليًّا منذ عقود. وتأتي الاتفاقية الإطارية الموقعة بين مقديشو وأنقرة عاكسة تمددًا تركيًّا في المياه الإقليمية بالقرب من خليج عدن، وتعزيز حضورها ووجودها في كل من الصومال ودول الخليج (قطر) واليمن.
توازن المصالح وتضارب الأجندات: من الصعوبة التكهن حول قياس مدى ارتدادات الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة على مصالح تركيا في كل من إثيوبيا وصوماليلاند؛ حيث إن التعاون الاقتصادي بين تركيا وإثيوبيا يناهز 300 مليون دولار أميركي سنويًّا، ويبلغ حجم استثماراتها نحو ملياري دولار أميركي ويتم الانتهاء من 13 مشروعًا اقتصاديًّا ضخمًا تديره 20 شركة تركية تشغل قرابة 20 ألف إثيوبي(13)، وكذلك توجد قنصلية تركية في صوماليلاند، وتنفذ الهيئات التركية مشاريع تنموية في هرجيسا، كما أن لديها مصالح اقتصادية ودبلوماسية في الصومال؛ إذ توجد أكبر سفارة تركية في إفريقيا في مقديشو، ويقدر حجم التجارة بين البلدين سنويًّا بنحو 250 مليون دولار أميركي، كما تدير شركة البيرق التركية ميناء مقديشو منذ عام 2014 وتشغل فافوري التركية مطار مقديشو منذ عام 2015، ويبلغ حجم الاستثمارات التركية في الصومال 100 مليون دولار أميركي(14)، كما أن لديها اتفاقيات أمنية موقعة مع إثيوبيا وزودتها في أعقاب حرب تيغراي بمسيرات تركية لاحتواء خطر الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وتعد حليفًا موثوقًا، ولهذا يمكن أن تواجه أنقرة مأزقًا في التوفيق بين مصالحها في إثيوبيا والصومال(15).
دبلوماسية القوة الناعمة التركية في القرن الإفريقي: نظرًا لتلك العلاقات القوية والتبادل التجاري بين تركيا ودول القرن الإفريقي، ومن خلال استخدام أدواتها الدبلوماسية وقوتها الناعمة، يمكن أن تلعب أنقرة دور وساطة لنزع فتيل التوترات في منطقة القرن الإفريقي، بين الصومال وإثيوبيا، لكن تكمن صعوبة جمة في إقناع حليفتها الصومال بدخول مفاوضات مع إثيوبيا ما لم تسحب الأخيرة مذكرة تفاهم مع هرجيسا، كما أن التراجع عن هذه المذكرة من قبل آبي أحمد ليس بالأمر الهين راهنًا، لأنها اعتبرت مطلبًا شعبيًّا، يلفت الانتباه عن التصدعات الداخلية إلى أزمة خارجية لها تأثيرات وانعكاسات ذات أبعاد مختلفة على استقرار المنطقة. ولهذا، فإن أعباء الحضور التركي في المنطقة أمام رهان واختبار صعب في التوفيق بين أطراف إقليمية تتجه نحو تصعيد أزماتها بما لا يخدم جهود ردع انزلاق المنطقة إلى أتون الحرب الأهلية مجددًا.
خاتمة
بعد مضي نحو شهرين من الاتفاقية المبرمة بين صوماليلاند وإثيوبيا والتي اعتبرت ردًّا طبيعيًّا على الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة، فإن ثمة متغيرات جديدة في جيوبوليتيك دول القرن الإفريقي في ما يتعلق بطبيعة التحالفات والتشابكات الموجودة؛ حيث تلعب مصر أدوارًا متعددة في محاولتها لحشر إثيوبيا في الزاوية المعزولة، فقد تحولت الصومال من شريك أمني وتجاري إلى خصم لايستهان به بالنسبة لإثيوبيا، نظرًا للدبلوماسية التي تمارسها حاليًّا في المحافل الدولية والإقليمية وتسليط الأضواء على إثيوبيا باعتبارها مصدرًا للقلاقل والفوضى في المنطقة اتساقًا مع رؤية السياسة الخارجية المصرية تجاه إثيوبيا. هذا إلى جانب تشابك العلاقات أكثر بين مصر وإريتريا بعد زيارة أفورقي الأخيرة إلى القاهرة والتي أكد فيها الرئيسان على ضرورة حماية سيادة واستقلال ووحدة الصومال، وقبلها زيارة وزيرة الخارجية المصري، سامح شكري، إلى أسمرة، بعد انكشاف رغبة إثيوبيا في الوصول إلى البحر الأحمر، ولهذا يمكن تقسيم جيوبوليتيك القرن الإفريقي إلى محورين: محور تقوده مصر ويضم كلًّا من الصومال وإريتريا والسعودية، ومحور آخر، بزعامة الإمارات، ويضم كلًّا من إثيوبيا وأرض الصومال(16)، كما أن حسابات واشنطن وبيجين وأنقرة حاضرة في المشهد، لمنع الصومال وإثيوبيا من الذهاب إلى جولة مواجهات عنيفة مجددًا وفي حرب غير متكافئة بين الجارتين.