هل تساهم غزّة في حلحلة قضايا المنطقة؟

هل تساهم غزّة في حلحلة قضايا المنطقة؟

من الواضح أن مختلف الجهات المحلية والإقليمية والدولية تحاول الاستثمار في ما يجري في غزّة منذ أكثر من خمسة أشهر، نتيجة الحرب التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشدّدة على القطاع؛ الحرب التي كلفت الغزّيين عشرات الآلاف من الضحايا والجرحى؛ كما أدّت إلى تدمير القسم الأكبر من العمران الغزّي على صعيد الوحدات السكنية والمدارس والمشافي والبنية التحتية. على المستوى الإسرائيلي، يحاول نتنياهو بكل السبل، وعلى حساب دماء أطفال قطاع غزّة ونسائه، تحقيق “إنجاز” ما، رغم خلافاته المزمنة المستعصية مع خصومه السياسيين ضمن المعارضة، وداخل الائتلاف الحكومي نفسه، ليُنقذ مستقبله الشخصي والسياسي.
وعلى الجهة المقابلة، يلاحظ أن الخلافات الفلسطينية التنافسية البينية، سيما بين حركتي فتح وحماس ما زالت فاعلة، تبرُز على السطح لدى أي منعطف، الأمر الذي يؤثّر على معنويات الفلسطينيين في الداخل، وعلى صورتهم في الخارج، عربياً وإسلامياً ودولياً. هذا رغم المحاولات الدائمة التي تُبذل لإظهار التماسك في الموقف الفلسطيني الداخلي في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية التي أطلقها نتنياهو من عقالها من دون وجود برنامج سياسي مقنع وواضح، حتى بالنسبة إلى حليفه الاستراتيجي (الولايات المتحدة)، وهو الأمر الذي أحدث إرباكاً لحملة جو بايدن الانتخابية الرئاسية، بل يُنذر حتى بخسارته أمام دونالد ترامب؛ هذا إذا ما تأكّدت خسارته أصوات العرب والمسلمين في الولايات المتأرجحة، خصوصاً ميشيغان. لذلك تُلاحظ المبادرات المتواصلة من بايدن بهدف إعطاء انطباع، ولو آنيّا تسويقيٍّا، مفاده وجود محاولات أميركية جادّة لإيصال المواد الإغاثية إلى غزّة سواء عبر عمليات الإسقاط الجوي، أو عن طريق الرحلات البحرية من قبرص وغزّة، أو من خلال إنشاء ميناء بحري مؤقت بالقرب من شوطئ غزّة.

جهود الحوثي المعرقلة تؤثّر سلباً على مصر من جهة خفض عائدات موارد قناة السويس

ومن الجانب الإيراني، هناك رغبة حثيثة في الاستفادة مما حصل، ويحصل في غزّة، من خلال الأذرع التي شكلها واستثمر فيها النظام الإيراني عقوداً. ويبدو أنه قد جرى التوافق بين أطراف “المقاومة والممانعة” على تكليف الحوثي بمهمة عرقلة الملاحة الدولية في منطقتي باب المندب والبحر الأحمر؛ الأمر الذي يشكّل ضغطاً إضافيا على الأوروبيين وحتى على الصين من جهة تأخير حركة وصول الصادرات والواردات المستمرّة في هذا الممرّ البحري الهام. كما أن جهود الحوثي المعرقلة تؤثّر سلباً على مصر من جهة خفض عائدات موارد قناة السويس. وقد دفع ذلك كله الدول الغربية إلى تحريك قطعاتها العسكرية بهدف منع الحوثي من الاستمرار في سلوكياته الشعبوية تحت شعار دعم الفلسطينيين، والضغط على الإسرائيليين.
أما إيران نفسها، وذراعها الأقوى في المنطقة، حزب الله، فمن الواضح أنهما يُحاولان بشتى السبل التوصّل إلى توافقات سياسية مع الدول الغربية، سيما مع الولايات المتحدة، في لبنان والعراق وحتى في سورية، هذا رغم بعض العمليات التحريكية هنا وهناك، وإطلاق التصريحات النارية التي لا تتجاوز دائرة الاستهلاك المحلي، وهي عملياتٌ وتصريحاتٌ تتزامن مع مفاوضاتٍ غير مباشرة، وربما مباشرة، في لبنان وعُمان، وربما العراق. ولعلّ هذا ما يفسّر تراجع وتيرة المطالبات بخروج القوات الأميركية من العراق، والإعلان عن توقف العمليات التي استهدفت القوات الأميركية في كل من سورية والعراق. هذا إلى جانب التزام سلطة بشّار الأسد الصمت تجاه ما يجري في غزّة، هذا الصمت الذي يوحي بألف سؤال وسؤال.
أما التطور اللافت الذي يستوجب التوقف عنده على المستوى الإقليمي، فقد تمثّل في زيارات واتصالات تركية وعراقية وكردية عالية المستوى إلى واشنطن، حيث عقدت سلسلة من الاجتماعات المهمة مع ممثلي مختلف أطراف الإدارة الأميركية، شملت الخارجية والدفاع والبيت الأبيض والأجهزة الاستخباراتية. كما جرى التداول عبر اتصالات متعدّدة الأطراف في جملة من القضايا شملت تفاهماتٍ إقليمية بين القوى الإقليمية الأساسية، ومساعي قطع الطريق أمام أي إمكانية لتوسّع دائرة النزاع في المنطقة نتيجة متغيّرات الأوضاغ وتطوّراتها في غزّة.

ستكون هناك انعكاسات آنية، ومستقبلية، لما تم التوصل إليه في بغداد على الأوضاع في سورية

ويشار في هذا السياق إلى الاجتماعات المهمة التي شهدتها بغداد ضمن إطار الآلية الأمنية بين العراق وتركيا؛ وهي الاجتماعات التي شارك فيها وزيرا الخارجية في البلديْن إلى جانب وزيري الدفاع، بالإضافة إلى وزراء الداخلية العراقي والتركي وإقليم كردستان العراقي؛ إلى جانب رؤساء الأجهزة الأمنية في البلدين. ومما توصلوا إليه اعتبار تنظيم حزب العمّال الكردستاني تهديداً للأمن العراقي، فضلا عن اعتبار وجوده على الأراضي العراقية خرقاً للدستور العراقي نفسه. كما تم التوافق على معالجة الأوضاع في سنجار/ شنكال، وذلك لن يتم من دون عملية فك ارتباط بين قوات الحزب المذكور وواجهاته في المنطقة، وقوات الحشد الشعبي الموجودة هناك بهدف التحكّم في الممرّات البرّية بين العراق وسورية. وما يُستشفّ مما جرى التوصل إليه في اجتماعات بغداد بين الجانبين العراقي والتركي، وهي اجتماعات لم تكن بعيدة، في جميع الأحوال، عن معرفة كل الولايات المتحدة وإيران، وعلى الأكثر بضوء أخضر منهما، وذلك لأهمية الوضع العراقي بالنسبة إليهما، وبالنسبة إلى تركيا نفسها في الوقت ذلك.
وهنا تجدر الإشارة إلى صعوبة عملية الفصل بين الوضعيْن، العراقي والسوري، سواء من جهة التداخل السكّاني، أم على صعيد تداخل الاهتمامات الإقليمية والدولية بينهما. لذلك ستكون هناك انعكاسات آنية، ومستقبلية، لما تم التوصل إليه في بغداد على الأوضاع في سورية، وفي المنطقة الشمالية من سورية تحديداً (الغربية والشرقية)، فالتوافق الأميركي والتركي في تلك المنطقة سيكون مقدّمة للتفكير في حلول تجسّدها حلول واقعية ملموسة على الأرض، تتجاوز هرطقات اللجنة الدستورية التي لم، ولن، تؤدّي إلى شيءٍ منتج من دون توافقات إقليمية ودولية.

بعد الذي حدث في غزّة، وما قد يحصل مستقبلاً، لن تكون هناك إرادة إقليمية ودولية تغضّ النظر عن الامتداد الإيراني

ومن هنا، نرى أن التوصّل إلى تفاهمات تركية أميركية مع كل من إيران وروسيا سيساهم في حدوث انفراجات سياسية تضع حدّاً للتغلغل الإيراني في كل من سورية ولبنان، لأنه بعد الذي حدث في غزّة، وما قد يحصل مستقبلاً، لن تكون هناك إرادة إقليمية ودولية تغضّ النظر عن الامتداد الإيراني ما بين منطقة الخليج المحاذية لأكثر التكتّلات العربية تماسكاً، وثروةً، وأهمية على الصعيد الجيوسياسي، وقدرةً على التواصل مع العالمين العربي والإسلامي، ومع مختلف التكتلات الدولية، ومع الغربيين والولايات المتحدة تحديداً؛ ومع سواحل المتوسّط حيث الممرّات المائية العالمية الأهم راهناً، ومستقبلاً، وحيث التداخل الحدودي مع إسرائيل، خصوصاً في أجواء التفعيل الدولي لمشروع حل الدولتين الذي يرفضه نتنياهو بعنادٍ شرس حالياً؛ غير أن هذا المشروع سيشكل تحدّياً للحكومة، أو الحكومات، الإسرائيلية المقبلة، إذا كانت هناك إرادة دولية فاعلة، تتابع هذه الملفّ بجدّية، وتعمل من أجل التوصل إلى حلٍّ مقبولٍ مقنع مستدام، فقد أثبتت التجربة القاسية في غزّة مجدّداً أنه من دون وضع حلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينة، لم تؤدّ كل الخطوات الأخرى التي كانت مجرد حلول تخديرية، ولن تؤدّي، إلى السلام، ولم، ولن، تحقق الأمن والاستقرار.
بقي أن نقول إن الوضع السوري هو الآخر لن يصل إلى شاطئ الأمان من دون حلٍّ يرتقي إلى مستوى تضحيات السوريين المناهضين لسلطة الاستبداد والفساد والإفساد وتطلّعاتهم. أما محاولات فرض سلطة آل الأسد على السوريين بأسماء وممارسات مختلفة، فهذا فحواه أننا ما زلنا نتعامل مع أهم القضايا بعقليةٍ تفتقر إلى الرؤية والبرنامج وخريطة طريق واقعية مقنعة.
وفي حال التوصل إلى حلٍّ في فلسطين وسورية، والعراق بطبيعة الحال، ستكون مسألة الوصول إلى حلٍّ للوضع اللبناني مجرّد تحصيل حاصل في حاصل. وشعوب منطقتنا في حاجة إلى تفاهمات وآليات إقليمية ودولية لوضع حدٍّ لجملة المآسي وحالات الإنهاك التي طالت، وتسبّبت في كثير من النزف والتداعيات والانهيارات.