ارتكب تنظيم الدولة الإسلامية (المكنّى داعش) جريمتَه الإرهابية في روّاد حفل موسيقي في مسرح في موسكو، في سياق “الحرب المشتعلة” بينه وبين “الدول التي تُحارب الإسلام”، على ما أعلن. وبذلك، لم يُبقِنا في الحيرة التي وجدْنا أنفسنا فيها، والتي لا تتعلّق بمن فعل الجريمة التي قضى فيها نحو 140 شخصاً، وإنما بالغَرَض الذي أراده. وهنا، كان من السذاجة أن يأتي إلى أفهامنا أن يداً أوكرانيةً طويلةً أمكن لها الوصول إلى قاعة العروض التي تلقى ناسٌ فيها، أصحابُ ذائقةٍ ومزاج، للاعتداء الدامي، فالفعلة الشنيعة هذه لا يقترفها إلا أحدُ اثنتيْن: تنظيمات روسية إرهابية، وهذه تحتاج عيوناً ميكروسكوبية لرؤيتها، أو تنظيمات إسلامية جهادية متشدّدة، من صنف “داعش” وتنويعاته. ويكاد يكون مؤكّداً أن محاولات الأجهزة الروسية، ومعها الرئاسة، من أجل “تركيب” التّهمة على العدو الأوكراني لن تفلح. والقصّة، كما بيّنت الخيوط الأولى للواقعة الإرهابية، أن محاربة روسيا بوتين الإسلام (أين بالضبط؟) هي ما جعلت “داعش” يفعل ما شاهدنا في “كروكوس سيتي هول” في موسكو. وإذا صحّ أن “ولاية خراسان” في تنظيم داعش بادرت إلى تنفيذ الهجوم الأكثر وقاحةً في تاريخ روسيا المعاصر، على ما وصفه مدوّنٌ روسيٌّ معارض، فهذا يعني أن لهذا التنظيم قدراتِه وإمكاناتِه التي تجعله أميبياً، فلا يصير في وسع كل الحروب على الإرهاب، التي نشطت فيها تحالفاتٌ عربيةٌ وأميركيةٌ وأوروبية، أن تنجح في القضاء المُبرم عليه. وليس هذا فقط، وإنما أيضا ما يميل إليه صاحب هذا الكلمات، أن “داعش” فكرة، قبل أن يكون تنظيما، وأن “الدولة الإسلامية” تتقدّم أشواق ناسٍ يسترخصون أرواحهم في سبيلها، بل أيضاً أن الذي يعشّش في مدارك أهل هذا التنظيم المريع أنه يجب “أن يبقى وأن يتمدّد” وأظنّه أعلن هذا بنفسِه مرّة.
صحّ الذي أعلنته الأجهزة الروسية عن إلقائها القبض على شابٍّ تركي كان ضالعا في الاعتداء أم لا، فإن ما يصل إلى منزلة التأكيد أن “داعش” ذو فرادةٍ وعصيٌّ على الإمّحاء، ربما إلى زمنٍ ليس منظوراً بعد. وعندما تعلن ولاية خراسان فيه أنها وراء ضرباتٍ تعرّض لها مطار كابول قبل ثلاث سنوات، ثم التفجير الانتحاري الذي استهدف سفارة روسيا في العاصمة الأفغانية، وعندما ينسب إلى نفسه المسؤولية عن التفجيريْن الانتحاريْن المهوليْن في كرمان في إيران الشهر الأول من العام الحالي، وقضى فيه أكثر من مائة، فذلك كلّه يأخُذنا إلى أن “اختصاصاتٍ” يتولّاها هذا التنظيم في حيّز جغرافي عريض، في موازاة نظرائه الذين يتولّون اقتراف جرائم إرهابية في سورية والعراق، وفي المشرق العربي، ونظرائه الآخرين الذين ينشطون في شمال أفريقيا، وكذا الذين يُماثلونهم في دول الساحل وشرق أفريقيا. وليس من دلالةٍ في “مسرح العمليات” الشاسع هذا سوى أن “داعش” يأخُذ تماماً بأن عليه أن يبقى وأن يتمدّد، ولو تراجع طوْراً وانحسَر أطواراً. وذلك لأن “الحالة التي تُبقيه قابلاً للحياة هي حالة مستمرّة من التمدّد والانحسار”، وأن توقّف التمدّد والعمليات القتالية يعني أنه بدأ في “عملية الاندثار”، كما أوضح تشريح عزمي بشارة الوافي لهذا الأمر في كتابٍ له، قدّم إطاراً عامّاً ومساهمةً نقديةً في فهم ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية، وكان جزءاً أول لكتابيْن ضمن مشروع بحثي عن “داعش”، ساهم في الجزء الثاني عدّة باحثين، وصدرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 2018. والظنّ هنا أن للكتابيْن أهمية كبرى في فهم مقصد “داعش” من ضربته في الحفل الموسيقي، “محاربة الدول التي تحارب الإسلام”.
أخطر ما في الذي عوين في المسرح في موسكو أن “داعش” يُعلن عن كفاءة أياديه الطولى، فيقول إن كل مسرح أو مقهى أو شارع أو… في أي دولةٍ “تحارب الإسلام”، بحسب تصنيفاته الخاصة به، مُباحةٌ لعناصره، وإن في وُسعه أن ينوّع في سحنات هؤلاء، فيختارهم أتراكاً أو شيشاناً أو عرباً. والمريع هنا أن الدول من النوع الذي يراه “داعش” محارباً للإسلام كثيرة… ومنها دولٌ عربيةٌ بالطبع. حماها الله وحمى الجميع.