تأخرت تركيا كثيراً في اتباع السياسات النقدية المتشددة مقارنة بنظيراتها الأوروبية التي سارعت إلى اتخاذ تلك التدابير، ومنها رفع سعر الفائدة على العملة بغية السيطرة على ارتفاع معدلات التضخم الناجم عن ضخ تلال من الأموال في الشرايين الاقتصادية لمواجهة تداعيات فيروس كورونا.
وفي هذه الأثناء لم تكتف الإدارة التركية بتجاهل السياسات النقدية المطبقة من البنوك المركزية العالمية الكبرى، ومنها الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوربي وبنك إنكلترا، بل عمدت إلى سياسات مغايرة تماماً خفضت فيها أسعار الفائدة على الليرة أكثر من مرة حتى بلغت حدود 10% تقريباً، مع استمرار الإبقاء على إتاحة بطاقات الائتمان والقروض الاستهلاكية الكبيرة التي اعتاد المواطنون الأتراك الاعتماد عليها لرفع مستوياتهم الاستهلاكية خلال السنوات الأخيرة.
ومع استمرار معدل التضخم في الارتفاع وجّهت سهام النقد إلى السياسات التوسعية للاقتصاد التركي على الرغم من نجاحها في حفز الاستثمار والتصنيع المحلي والقفز بمعدلات النمو والناتج المحلي والصادرات إلى قمم غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي للبلاد، وبالفعل تراجعت الإدارة التركية عن تلك السياسات بعد الانتخابات الرئاسية وتعيين المخضرم محمد شيمشك وزيراً للخزانة والمالية وقائداً للمجموعة والسياسات الاقتصادية.
ومنذ اللحظة الأولى لتعيينه قاد شيمشك انقلاباً على السياسات التوسعية معلناً اتباعه سياسات أكثر عقلانية كما أسماها، ومؤكداً أنه سيلجأ بالتنسيق مع محافظ البنك المركزي التركي إلى رفع سعر الفائدة إلى المستويات اللازمة لكبح جماح التضخم، مع اتخاذ تدابير من شأنها كمش مستويات الاستهلاك العائلي بما يصب في تحقيق الهدف نفسه.
من المؤكد أن السياسات النقدية وحدها غير قادرة على مواجهة المشكلات الاقتصادية في الاقتصادات الكبرى ولا في المتوسطة
وبالفعل توالت قرارات رفع سعر الفائدة حتى بلغت 50% كاملة نهاية الأسبوع الماضي في أقل من سبعة أشهر فقط، وكان ذلك بمثابة سلسلة من الزلازل والهزات الارتدادية التي أثرت ولا شك على كل مفاصل الاقتصاد التركي، والأهم من ذلك تشكيل صورة ضبابية حول مستقبل الاستثمار والاستهلاك، ولا سيما في ظل الفشل في التصدي لموجات التضخم العاتية التي تعصف بالمكونات الاقتصادية وبالقدرات الشرائية للمواطنين.
أزمة التضخم والليرة تعصف بالمواطن
على الرغم من مرور سبعة أشهر كاملة تقريباً على تطبيق السياسات الانكماشية على الاقتصاد التركي، لم تنجح تلك السياسات في تحقيق هدف خفض معدل التضخم، والذي زاد خلال فبراير/شباط الماضي إلى 67.1% على أساس سنوي مقارنة بنحو 64.9% في يناير/كانون الثاني الماضي، وتوقع شيمشك أن يظل التضخم السنوي مرتفعاً في الأشهر المقبلة، بسبب تأثيرات سنة الأساس وعدم ظهور تأثير السياسة النقدية، لكنه سينخفض كما قال خلال الـ12 شهراً التالية.موقف
تركيا ومصيدة الفائدة التي شلت اقتصادها
تزامن ذلك مع سلسلة من الانخفاضات لسعر صرف العملة المحلية والتي انحدرت من 18 ليرة للدولار الواحد في ديسمبر 2021 إلى 32.15 ليرة للدولار تقريباً حتى تعاملات يوم الجمعة الماضية، وذلك علي الرغم من محاولة البنك المركزي التركي السيطرة من خلال مبيعات قوية للدولار بلغت ما يقارب 6 مليار دولار خلال الأسابيع الثلاثة الماضية فقط.
ولا يزال الانخفاض سيد الموقف، فالبنك المركزي توقع أن ينتهي العام الحالي عن 40 ليرة للدولار الواحد، ومن المؤكد أن وتيرة هبوط الليرة حالياً تشير إلى الوصول إلى هذا السعر قبل نهاية النصف الأول من العام الحالي.
عموماً، إن استمرار ارتفاع التضخم وانهيار الليرة مع التأثيرات السلبية لرفع سعر الفائدة على كل من الاستثمار والاستهلاك والتي لم تظهر آثارها الكاملة حتى الآن تدعونا إلى مناقشة فاعلية تلك السياسات ليس على الأوضاع الاقتصادية الحالية فحسب، بل على مستقبل تلك الأوضاع في الأجلين المتوسط والطويل.
هل أفلت الاقتصاد من الركود؟
أشارت البيانات الرسمية إلى تجنب الاقتصاد التركي الركود خلال الربع الثالث من هذا العام الجاري رغم تباطؤ النمو، فقد توسع الناتج المحلي الإجمالي في الفترة بين يوليو وسبتمبر بنسبة 0.3% مقارنة بالربع الثاني، بانخفاض 3.3% عن الأشهر الثلاثة السابقة، في حين بلغ متوسط توقعات المحللين 1% انخفاضاً فقط.
أشارت البيانات الرسمية إلى تجنب الاقتصاد التركي الركود خلال الربع الثالث من هذا العام الجاري رغم تباطؤ النمو
وعلى أساس سنوي، استمر بعض النمو في البلاد، إذ بلغ 5.9% خلال الربع الثالث بمقارنة سنوية، ومقابل 3.9% المعدلة في الربع الثاني، وهو الأمر الذي اعتبر أنه إفلات من الركود في ظل التشديد النقدي المتصاعد، والذي لم يحقق الأثر الملموس.
والحقيقة أن هذه البيانات الإيجابية يجب ألا تنعزل عن بيانات أخري تشير إلى ركود قطاعات اقتصادية مهمة تحت تأثير تلك السياسات، فعلى سبيل المثال انكمش النشاط الصناعي بصورة متواصلة خلال الستة أشهر الماضية، إذ سبّب نقص الطلب في تباطؤ إجمالي الطلبيات الجديدة والأعمال التجارية من الخارج، وهو الأمر الذي بات من المرجح استمراره في ظل تراجع الواردات الأوروبية من السوق التركية نتيجة لتباطؤ الاقتصادات الأوربية.
المصرف المركزي التركي
أسواق
البنك المركزي التركي يفاجئ الأسواق ويرفع سعر الفائدة إلى 50%
واللافت أن تداعيات تطبيق السياسات المتشددة تحث على التراخي وتظهر بوضوح في الأجل المتوسط، الأمر الذي يعني أن الإفلات من الركود خلال الربع الماضي حتى الربع الحالي لا يعني الإفلات كلياً، خاصة في ظل القفزة الأخيرة لسعر الفائدة من 45% إلى 50%، وهي الزيادة التي أتت في ظل التنافس المحموم مع الاقتصادات الناشئة في جذب الأموال الساخنة التي عادت إلى الاقتصاد المصري بقوة خلال الأسبوعين الماضيين.
لا أعرف على وجه التحديد منبع ثقة الإدارة الاقتصادية التركية في عدم السقوط في فخ الركود، فالاقتصاد التركي أقل صلابة وتقدماً من اقتصادات كبيرة وقوية وقعت فعلياً في فخ الركود، ومثالها الأبرز هو الاقتصاد الألماني الذي سقط فعلياً في فخ الركود لربعين متتاليين، وكذلك الاقتصاد الياباني.
وبصفة عامة تشهد أوروبا أسوأ موسم نتائج أعمال منذ بداية أزمة كورونا، وتعد النسب المعلنة التي تدور حول الصفر تقريباً هي الأقل منذ الربع الأول من 2020، عندما اجتاحت جائحة كورونا القارة العجوز، مع توقعات بتواصل المنطقة معاناتها في ظل ارتفاع معدلات الفائدة.
ويمكن إرجاع هذا الأداء السيئ للشركات الأوروبية إلى بيئة الاقتصاد الكلي الضعيفة لدى أوروبا، وتسجيل الناتج المحلي الإجمالي مستويات قريبة من الصفر في الربعين الثالث والرابع، وكذلك التعرض الكبير للصين في ما يخص بعض الشركات أثّر سلباً على الشركات.
يتوجب على الإدارة التركية مراجعة فاعلية سياساتها المتشددة التي لم تقدم جديداً حتى الآن، ومن المرجح أن سلبياتها ستفوق إيجابياتها كثيراً
من المؤكد أن السياسات النقدية وحدها غير قادرة على مواجهة المشكلات الاقتصادية في الاقتصادات الكبرى ولا في المتوسطة، وأن السير في قطيع النقديين يحتاج إلى إعادة التقييم في جدواه وفاعليته في ظل تجارب عديدة بدأت تعاني سلبيات ربما تكون تداعياتها أكبر كثيراً من الصعوبات الاقتصادية قبل تطبيق الحزم النقدية.
كان المسار التوسعي للاقتصاد التركي جديراً بالاستمرار، خاصة مع تحقيقه طفرات عديدة على مستوى المؤشرات الاقتصادية الكلية، وكانت معاناة الاقتصاد نتيجة لبنية تنموية أصابها التشوه لأسباب كثيرة خارجة عن إرادة الإدارة التركية ولم تتم مواجهتها بالصورة الناجزة، ومن بينها على سبيل المثال الزلزال المدمر في نهاية العام الماضي.
ومن هنا يمكن الإشارة إلى أنه يتوجب على الإدارة التركية مراجعة فاعلية سياساتها المتشددة التي لم تقدم جديداً حتى الآن، ومن المرجح أن سلبياتها ستفوق إيجابياتها كثيراً.