بعد 75 عاماً على تأسيسه لا يزال حلف شمال الأطلسي (ناتو) لاعباً هاماً في سياق تحقيق المصالح الغربية، التي تلتقي عليها ضفتا الأطلسي، في أوروبا وأميركا الشمالية. على الأقل ذلك ما يقدمه المحتفون الغربيون هذه الأيام بمرور ثلاثة أرباع القرن على تأسيسه في الرابع من إبريل/ نيسان 1949.
وقبل سنوات قليلة فقط كان بعض المسؤولين الغربيين يشبّهون “الناتو” بالميت سريرياً، وبعضهم كان يدعو للانسحاب منه، قبل أن يعودوا إلى الحلف كمظلة دفاعية أمنية مشتركة، خصوصاً في أوروبا، التي لم تمتلك بعد سياسات عسكرية مشتركة قارياً ومنفصلة عن الحلف، كما هو الأمر في سياسات أخرى حيوية، مثل السياسات الاقتصادية والخارجية، وغيرها على مستوى الداخل.
واجه حلف شمال الأطلسي تحديات عدة، واستطاع تجيير تضعضع الثنائية القطبية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق)، بعد نهاية الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، لصالح أجنداته وعلى حساب الكتلة الشرقية السابقة بزعامة الاتحاد السوفييتي الذي تفكك في 1991.
ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022 والحلف يسعى إلى ترسيخ ما حققه منذ سقوط جدار برلين في عام 1989، حتى وصلت الأمور إلى حد عدم استبعاد وضع جنود على الأرض في مواجهة روسيا، وعودة نغمة سباق التسلح، بما فيه التسلّح النووي كأحد خيارات الردع.
أعادت الحرب الأوكرانية المتواصلة بعض “الروح” إلى الحلف
أعادت الحرب الأوكرانية المتواصلة بعض “الروح” إلى الحلف، الذي عاش فترة عصيبة ومتشائمة بشأن مستقبله في مرحلة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ويخشى أن تتكرر في حال عودة الأخير إلى البيت الأبيض، بموجب الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
ومن النتائج التي أفرزتها الحرب الأوكرانية ارتفاع عدد دول حلف شمال الأطلسي إلى 32، بانضمام فنلندا والسويد. وإذا كانت الأولى قد خاضت “حرب الشتاء” ضد الاتحاد السوفييتي، بين 30 نوفمبر 1939 و13 مارس/ آذار 1940، فإن السويد تخلّت عن “سياسة الحياد” التي اعتمدتها في عام 1809 إثر خسارتها الحرب في حينه ضد الإمبراطورية الروسية. وبعد 213 عاماً من الحياد، قدمت استوكهولم طلباً للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في عام 2022 ليتحقق لها ما أرادته أخيراً.
لكن عودة الحياة للحلف لم تكن من دون أثمان، ومنها تصاعد توتر علاقات الغرب بروسيا، والصين إلى حد ما، وتوجيه اتهامات للحلف بالتدخل المباشر في الحرب الأوكرانية، التي تصاعدت من خلالها استعادة لهجة “الستار الحديدي” (مصطلح يصف الحدود الفاصلة بين الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية من جهة والمعسكر الغربي من جهة أخرى، واستمر بين عامي 1945 و1991).
ولعله في مقابل انهيار الكتلة الشرقية، بدءاً من أواخر ثمانينيات القرن الماضي، فإنه خلال السنوات الـ75 تميزت مسيرة “الأطلسي” بالتوسع من 12 دولة في عام التأسيس 1949 (وضم الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا والدنمارك وأيسلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج والبرتغال)، إلى أن أصبح يضم 32 دولة في 2024 بانضمام فنلندا والسويد إليه.
شهية التوسع لـ”الأطلسي” وقضمه الجغرافي والسياسي والعسكري شكّل خلال العقود الأخيرة أحد أهم أسباب الصدام مع روسيا، بما في ذلك استغلاله لتورط موسكو في الحرب الأوكرانية، مثلما استغل في أواسط تسعينيات القرن الماضي أوضاع روسيا القلقة لتحقيق مصالحه على حسابها.
تحليلات
“استجابة الشمال”.. رسائل حلف شمال الأطلسي قرب مخزون روسيا النووي
ويجد حلف شمال الأطلسي نفسه اليوم مضطراً لتغيير أدواره، منتقلاً من فكرة “شيطنة الشيوعية واحتواء الاتحاد السوفييتي”، واعتبار أركان الحلف “حراس سلام”، من خلال تحالف ضفتي الأطلسي، كما ساقها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في الخامس من مايو/ أيار 1946، في تقديمه لخطاب “الستار الحديدي”، إلى ما يشبه قول الرئيس الأميركي وقت تأسيس “الأطلسي” هاري ترومان على اعتبار أن الحلف مثل “مجموعة من أصحاب المنازل الذين قرروا التعبير عن مصالحهم المشتركة”، وعلى أنه بمثابة “حصن للسلام والتقدم”.
ويعني ذلك تحديداً التذكير بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تنصّ على أن أي هجوم مسلح على أي من الدول الأعضاء في “الناتو” بمثابة هجوم على كل الأعضاء، وذلك وسط تزايد اللغط والسجال حول هذه المادة مع بدء توتر العلاقات مع روسيا منذ عام 2014.
حلف وارسو في مقابل “الناتو”
اعتبرت موسكو تأسيس حلف شمال الأطلسي في عام 1949 موجّهاً ضدها وضد مصالحها. وفي أغسطس/ آب 1949، أجرى الاتحاد السوفييتي تفجيره النووي الأول. وبعدما باشر “الأطلسي” توسعه نحو تركيا واليونان في عام 1952، كانت موسكو تعد لإطلاق “حلف وارسو”.
وفي عام 1955 وقعت مع السوفييت كل من ألبانيا وبلغاريا وبولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا (انقسمت سلمياً في عام 1993 إلى دولتي جمهورية التشيك وسلوفاكيا)، والمجر وألمانيا الشرقية (اتحدت مع ألمانيا الغربية في عام 1990)، على “ميثاق وارسو”. تبنى الميثاق ما يشبه المادة الخامسة عند “الأطلسي”، أي الالتزام (بزعامة موسكو) بالدفاع المشترك وتبادل المساعدة في حال وقوع هجوم من الخارج على إحدى دول الحلف الشرقي.
بذلك بدأ يرتفع عملياً “الستار الحديدي” إلى مستويات أبعد من حرب باردة، نحو “الحرب بالوكالة”، سواء في شبه الجزيرة الكورية أو فيتنام أو أفريقيا والشرق الأوسط، وذروتها أزمة الصواريخ الكوبية (1962)، حين حبس العالم أنفاسه على وقع إرسال الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشيف صواريخ نووية روسية إلى جزيرة كوبا، رداً على نشر صواريخ أميركية في تركيا.
توتر العلاقات مع الاتحاد السوفييتي لم يمنع أن يشهد “الأطلسي” توترات داخلية في وقت مبكر، فقد اختار الرئيس الفرنسي شارل ديغول في عام 1966 وقف التعاون مع الحلف، متمايزاً في بعض السياسات الخارجية عن الحليف الأميركي.
سقوط جدار برلين… توسع مخادع
مع سقوط جدار برلين في عام 1989 وتفكك الاتحاد السوفييتي في أواخر 1991، كانت الحرب الباردة قد انتهت عملياً، وبدأ نقاش جدي حول الأساس الأصلي لوجود حلف شمال الأطلسي. وأوصل هذا النقاش البعض إلى حد تصور أن أيام “الأطلسي” باتت معدودة. هذا إلى جانب تصورات أخرى حول هوية الحلف وعلاقته بأوروبا.
الرهان على تفكك حلف شمال الأطلسي ونهايته ليست قريبة
التصور القائم على حتمية نهاية الحلف استند إلى أن تفكك “حلف وارسو” يعني في نهاية المطاف انتفاء مسوغات بقاء “الناتو”، على الأقل كما كان سابقاً. وسيشكل ذلك لاحقاً أساساً لخطوات دراماتيكية أعادت حالة أوروبا إلى ما قبل “الانفراج” الذي ساد علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي في زمن آخر رئيس له ميخائيل غورباتشوف.
شاركت بعض دول حلف شمال الأطلسي، بعد انهيار جدار برلين، في حرب “تحرير الكويت من العراق” بقيادة الولايات المتحدة في عام 1991، ما فتح الباب أمام نقاشات عن دور مستقبلي للتحالف الغربي خارج العالم الغربي. فسقوط جدار برلين بحد ذاته أفاد أصحاب وجهات النظر القائلة إن “الناتو” سيستمر وسيتخذ أدواراً أخرى جديدة.
فكرة أن “الناتو لم يعد له خصم مشترك”، تجاوزها المتعطشون لديمومته. فتوالت في الفترة اللاحقة خطابات “تخويف” أوروبا الشرقية من روسيا، وهو ما كثف في أواخر تسعينيات القرن الماضي الدعوات إلى ضم بولندا وجمهورية التشيك والمجر إلى “الأطلسي”. حتى اليوم يعد التوسع أحد أهم مصادر التوتر في علاقات موسكو بالغرب.
فتوسع “الأطلسي” شرقاً، بناء على وجهة نظر روسية، يعتبر “خداعاً” ومخالفة لتعهدات قدمها وزير الخارجية الأميركي آنذاك جيمس بيكر لغورباتشوف بألا يتمدد الحلف إلى أبعد من ألمانيا الموحدة. وهو خطاب يكرره الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين منذ نحو 17 عاماً.
وفي ظل الانشغال الروسي بتبعات نهاية الاتحاد السوفييتي كان “الأطلسي” ينفذ عمليات خارج منطقته في 1995، أثناء الحرب البوسنية (1992 ـ 1995)، ثم القصف على يوغسلافيا السابقة في عام 1999، من دون تفويض من الأمم المتحدة، بحجة “الدفاع عن ألبان كوسوفو”.
وارتفعت الأصوات الغربية المنتقدة لتدخل “الأطلسي” على أرض أجنبية. لكن التحديات اللاحقة، التي اختلطت فيها مصالح أوروبا، التي لا تملك قوات دفاع مشتركة، وحليف الضفة الأخرى من “الأطلسي”، بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
تقارير دولية
25 عاما على اتفاقية الأطلسي وروسيا: من وعود تعاون إلى حرب غير مباشرة
غيرت التوترات في العلاقة الروسية – الأطلسية خطاب الحلف الغربي، الذي اعتبر أن من مصلحة دول “الأطلسي” التدخل “لضمان السلام والاستقرار”، ولو خارج مناطق عملياته، كما حدث في البلقان في تسعينيات القرن الماضي، حيث أنشأ “الناتو” عمليات حفظ السلام في البوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية وكوسوفو، ثم العراق وأفغانستان.
شكلت تلك التدخلات نقطة تحول هامة من تحولات الحلف لاحقاً، بما في ذلك ما سمي “توسيع منطقة التأثير الجغرافي”، في سياق مفهوم يقوم على انفتاح استراتيجي على الدول الراغبة في الانضمام إليه. ويخلق التوسع “الأطلسي” وضعاً يخالف تماماً السردية والطموحات الروسية، والتي عبر عنها بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن في عام 2007، بمطالب إعادة حدود “الناتو” إلى ما كانت عليه قبل توسعه إلى أبعد من شرق ألمانيا.
ففي مناطق حيوية، رغم الخلافات التي أطلت برأسها بين واشنطن والجانب الأوروبي من “الأطلسي”، أصبح الوجود العسكري الغربي وكأنه أحد مسلمات نهاية الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة. وعلى عكس ما أرادته موسكو من إرجاع عقارب الساعة إلى أواسط تسعينيات القرن الماضي، واصل “الأطلسي” ضخ الأموال في شرايين العسكرة، وصولاً إلى النسبة السحرية المتعلقة بصرف اثنين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التسلح.
كما أن روسيا، تحديداً بعد بدء الحرب على أوكرانيا، بدأت تشاهد بقلق توسع قواعد الحلف الغربي، لتشمل أخيراً أكبر قاعدة مقابلة للقاعدة الروسية في شبه جزيرة القرم الأوكرانية (ضمّتها روسيا بالقوة في عام 2014)، في رومانيا، وصولاً إلى عمليات التفاف في أقصى الشمال الاسكندنافي، بعد إغلاق نصف الدائرة الشمالية، من المنطقة القطبية إلى البلطيق بوجه روسيا، عازلاً بعض قواعدها، مثل قواعد صواريخ “إسكندر” في جيب كالينينغراد الروسي، بين ليتوانيا وبولندا.
“ناتو 2030″… ضمان بقاء الحلف
في موازاة التدخلات والرغبة في التوسع، عمل الحلف على إعادة التفكير بمستقبله وأدواره. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2019 طلب قادة “الناتو” من الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ قيادة عملية التفكير بشأن المبادرات المحتملة لتعزيز “الأطلسي” مستقبلاً. وعلى أجندات الحلف، الذي يلتقي في قمة واشنطن بذكرى التأسيس، اليوم الخميس، تبقى مسألة الدور العالمي للأطلسي تحت عنوان “ناتو 2030” أحد مشاغل الدول الـ32 الأعضاء.
يستند الأطلسيون إلى 9 مبادرات تتعلق بمعظمها بضمان تحقيق أهداف الحلف. وباتت على رأسها زيادة التعاون في مجال الأسلحة والتغير المناخي والأمن والتطور التكنولوجي، إلى جانب أن “ناتو 2030” يهدف أيضاً إلى تعزيز الردع والقدرة الدفاعية المشتركة، وقضايا أخرى كثيرة تضمن مستقبله.
شهية التوسع لـ”الأطلسي” شكّلت أحد أهم أسباب الصدام مع روسيا
وأصبح هدف التعاون بين الاتحاد الأوروبي و”الناتو” أكثر إلحاحاً، إذ يرغب المعسكر الأوروبي في انتهاج سياسات تتسق مع “الفهم الاستراتيجي الجديد” للحلف. وعلى مستوى مستقبل العلاقة بروسيا، يبدو أن التوتر سيبقى سيد الموقف طالما أن الحلف الغربي يواصل تطبيق خطته التي تبنتها قمته في واشنطن 1999 تحت مسمى “خطة عمل العضوية”، من أجل إصلاح حالة جيوش دول شرق وجنوب شرق أوروبا لضمها إلى “الأطلسي”.
فالتوسع الأصلي شكل معضلة لروسيا، وتبريراً لتحركاتها العسكرية، كما في جورجيا 2008، ولاحقاً في أوكرانيا في عام 2014 ثم في عام 2022. في المجمل، ومنذ أن فتح “الناتو” في عام 1997 أبواب التوسع، وضم لاحقاً في 2004 دول البلطيق، والتي كانت بالأصل جزءاً من الاتحاد السوفييتي (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا)، أصبح الحلف الغربي أقرب بكثير من روسيا مما كان عليه قبل نحو عقدين.
واستفادة “الأطلسي” من تدخل روسيا في أوكرانيا، والتحذير من التدخل في غيرها، يمنح الحلف مزيداً من الوجود حتى في مناطق كانت تعتبر حيادية، أو تتجنب استفزاز موسكو سابقاً. التعاون العسكري في الدائرة القطبية الشمالية ومنطقة بحر البلطيق مع الدول الاسكندنافية سبق بسنوات انضمام كل من استوكهولم وهلسنكي إلى “الأطلسي”، بعد بدء الحرب الأوكرانية في 2022.
وفي كل الأحوال، فإن جردة 75 عاماً، واحتفالات الغرب المتواصلة في العام الحالي بذكرى تأسيس حلف شمال الأطلسي، تشير إلى أن الرهان على تفكك “الناتو” ونهايته ليست قريبة. وفي ظل قراءات الأوضاع العالمية التي لا تشبه التفاؤل الذي ساد بعيد نهاية الحرب الباردة، وزيادة منسوب تسخين وعسكرة الأجواء الأوروبية، يبدو أن الغربيين أكثر ميلاً لقبول “الناتو” كمظلة أمن مشتركة، حتى على مستوى الشارع، كاقتناع السويديين والفنلنديين بأغلبية كبيرة لعضوية بلادهم بعد عقود من “الحيادية” ونبذ العسكرة.
هذا إلى جانب تنامي الدعوات لتعميق تعاون الحلف مع منظومة الاتحاد الأوروبي، وإضفاء بعض العسكرة الأوروبية، مثل تأسيس “مفوضية الدفاع” في الاتحاد الأوروبي، والسعي إلى إنتاج عسكري مشترك، وتأمين موازنات لأجلها، مع غيرها من العوامل الكثيرة لضمان استمرار “الأطلسي”.