منذ بداية حرب الإبادة التي شنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني بعد عملية اختراق غلاف غزة يوم 7 أكتوبر، انتقلت المواجهات الدبلوماسية إلى مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة. اعتمد مجلس الأمن ثلاثة قرارات تتعلق بالهدن الإنسانية، ومؤخرا وقف إطلاق النار خلال شهر رمضان. واعتمدت الجمعية العامة قرارين الأول في أكتوبر بغالبية 120 صوتا، والثاني في ديسمبر بغالبية 153 صوتا.
موقفا روسيا والصين من الحرب الإجرامية على غزة تمكن من لجم تفرد الولايات المتحدة في محاولاتها الدؤوبة لإقحام إدانة حركة حماس ونعتها بالإرهاب في القرارات، دون إدانة إسرائيل
وقد تبلورت أثناء المناقشات في مجلس الأمن مجموعة من المواقف نستطيع أن نضع الموقف الأمريكي على رأس الداعمين لحرب الكيان بلا تحفظ، خاصة في البداية تحت يافطة «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس»، وذهبت السفيرة الأمريكية ليندا توماس غرينفيلد، إلى أبعد من ذلك بتأكيدها مرارا أن «من واجب إسرائيل أن تدافع عن مواطنيها». وتقف المملكة المتحدة إلى جانب الولايات المتحدة بشكل عام، فتكرر الخطاب نفسه حول «العمل الإرهابي» وحق إسرائيل في الدفاع عن النفس، ثم تعوج على ذكر حل الدولتين. أما فرنسا، ففي النهاية تقف مع هذا التوجه، وإن كانت كلماتها حول فلسطين قد تكون أوضح قليلا. ويقف على الجانب الآخر من المواقف العضو العربي في مجلس الأمن، ممثل المجموعة العربية الذي تشغله الجزائر (وشغلته الإمارات العربية لغاية 13 ديسمبر 2023). ويلتف حول الموقف الجزائري كل من الصين وروسيا وسلوفينيا وموزامبيق وغيانا وسيراليون. وهناك دول أربع قريبة من المواقف الأمريكية لكنها تحاول أن تراوح بين الموقفين وهي سويسرا وإكوادور واليابان وكوريا الجنوبية، وقد انضمت إلى الدول المنتخبة وطرحت الدول العشر مشروع قرار لوقف إطلاق النار في شهر رمضان اعتمد بغالبية 14 صوتا، بينما انفردت الولايات المتحدة بالتصويت بـ»امتناع» منحنية قليلا لتسمح للقرار أن يمر لأسباب عددية من بينها، اعتبارات محلية.
الموقفان الروسي والصيني
وللحقيقة فإن موقفي روسيا أولا والصين ثانيا من الحرب الإجرامية على غزة تمكن من لجم تفرد الولايات المتحدة في محاولاتها الدؤوبة لإقحام إدانة حركة حماس ونعتها بالإرهاب في القرارات، دون إدانة إسرائيل فيما ترتكبه من جرائم، والتأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وضرورة إطلاق الرهائن دون قيد ولا شرط. لقد ارتفعت نبرة الخطاب الروسي في مجلس الأمن، واتهم الولايات المتحدة بحماية المجازر والتضليل والخداع. وحمّل الولايات المتحدة المسؤولية عن المجازر، لأنها استخدمت الفيتو في بدايات المجزرة ضد مشروع القرار البرازيلي يوم 18 أكتوبر 2023. وقد أثار السفير الروسي، فاسيلي نيبيـنزيا، قضية النفاق الغربي وازدواجية المعايير. وذكر الولايات المتحدة وأعضاء حلف الناتو بما ارتكبوه من جرائم في العراق وليبيا وأفغانستان وصربيا وسوريا. وأكد أن هذه الدول لا يحق لها أن تتحدث عن القانون الدولي والميثاق لأنها أكثر من خرق القانون الدولي، وداس على الميثاق، خاصة في الحرب على العراق. أما المندوب الصيني فيقف عادة إلى جانب المندوب الروسي في كثير من المواقف، خاصة في محاولات دول الناتو توسيع الحلف خارج الدول الأعضاء. كما استخدم السفير جانغ جون، الفيتو كذلك ضد مشروع القرار الأمريكي الخطير، الذي تقدمت به الولايات المتحدة يوم 22 مارس متهما الولايات المتحدة بأنها تقدمت بمشروع غير متوازن. ولكنه يستخدم اللغة الناعمة فيقول تفسيرا لاستخدام الفيتو: «مشروع القرار هذا يظل غامضا، ولا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وهو انحراف واضح عن إجماع أعضاء المجلس، وأقل بكثير من توقعات المجتمع الدولي». ويكرر المندوب الصيني في خطاباته خطة سلام تتكون من أربع نقاط: وقف إطلاق النار، إدخال المساعدات الإنسانية دون قيود وبكميات كافية، وإطلاق سراح الرهائن، والعمل بجدية على حل الدولتين. لقد اتبعت الصين سياسة واحدة من قيام الحرب الأوكرانية، وصولا إلى حرب غزة بوضع اللوم على مجلس الأمن، وفشله في القيام بدوره الرئيس المناط به، وهو «حماية السلم والأمن الدوليين». وهذه سياسة التهرب من المسؤولية كما تقول الدكتورة رزان الشوامرة المتخصصة في العلاقات الصينية الفلسطينية. تدعو الصين باستمرار إلى التوازن في العلاقات الدولية وضرورة الالتزام بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وكانت انتقاداتها لواشنطن تركز على مسلكيتها في الأمم المتحدة والطريقة الانتقائية في المواقف والمعايير المزدوجة، ولم تنتقد مرة واحدة تسليح الولايات المتحدة لإسرائيل، ودعمها اللامحدود ماليا وعسكريا. وقد دافعت الصين عن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال واعتبرت حركة حماس حركة تحرر وطني، لكنها في الوقت نفسه أدانت استهداف المدنيين. في 9 أكتوبر قالت المتحدثـة باسـم وزارة الخارجيــة، مــاو نينــغ: «يتعيــن عــلى المجتمــع الــدولي أن يتحــرك بسرعــة أكبــر، وأن يزيــد مــن إســهاماته في القضيــة الفلســطينية، وتســهيل الاســتئناف المبكــر لمحادثــات السـلام بـيـن فلســطين وإسرائيــل، وإيجــاد وســيلة لتحقيــق الســلم الدائــم. وســتواصل الصيــن العمــل بـلا هــوادة مــع المجتمــع الــدولي لتحقيــق هــذه الغايــة».
أي مجتمع دولي وكيف ستعمل الصين بلا هوادة مع هذا المجتمع لتحقيق السلام الدائم؟ أليس ذلك تهربا من التصرف كدولة عظمى قادرة على أن تتخذ قرارات مؤثرة، ألا تستطيع الصين أن تلغي بعض العقود العسكرية والتعاون في المجالات الأمنية مع إسرائيل؟ وكيف تفسر الصين هذه الاستثمارات الكبرى في الكيان الصهيوني ليس فقط داخل إسرائيل المعترف بها دوليا، بل في المستوطنات التي تصنف بأنها غير شرعية حسب القانون الدولي.
روسيا والاعتداءات على سوريا
أتيحت لي الفرصة مرتين أن أسأل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن العلاقة المميزة لبلاده مع إسرائيل. وقد أثرت قضية الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، علما أن روسيا تملك القواعد العسكرية في البر والبحر والرادارات التي تكاد تحصي كل حركة في البلاد فكيف تسمح لإسرائيل بالعربدة في الأجواء السورية دون رادع. لماذا لا ترسل رسالة تحذير قوية لإسرائيل بالكف عن اختراق سيادة حليفتها سوريا، وإلا ستتصرف بطريقة أخرى، خاصة تمكين القوات السورية من خلال تزويدها بصواريخ فاعلة ومؤثرة تستطيع أن تتصيد الطائرات المعتدية. وكان جواب الوزير الروسي يؤكد أنهم يدينون هذه الاعتداءات وأنهم أبلغوا إسرائيل بموقفهم هذا. وقال في مرة «لا تنس أن هناك مليون روسي في إسرائيل وهؤلاء لهم علاقات مع بلدهم الأصلي روسيا». أي منطق وأي مبرر؟ وفي الأسبوع الأخير فقط قامت الطائرات الإسرائيلية بغارات مميتة على حلب وخلفت 38 ضحية، وعلى دمشق حيث دمرت القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت 7 أفراد، بمن فيهم ثلاثة جنرالات. فماذا كان الرد الروسي؟ عقد جلسة لمجلس الأمن للفضفضة في الكلام القاسي، دون أن يصدر عن المجلس أي بيان صحافي أو رئاسي. حتى إن المندوب الإسرائيلي قاطع الجلسة ولم يعطها أي أهمية. أهذه حدود القوة الروسية؟ وفي معرض إجابة لافروف عن القضية الفلسطينية كان يكرر قضية التمسك بآلية اللجنة الرباعية وخريطة الطريق، ثم يضع اللوم على الانقسام الفلسطيني ويروح يعدد محاولات روسيا لرأب الصدع الفلسطيني بدعوة الفصائل إلى موسكو؟ وكفى الله المؤمنين شر القتال. وقديما قالت العرب «أشبعتهم سباً وأودوا بالإبل».