لأول مرة في تاريخه بات حزب العدالة والتنمية الإسلامي التوجه، الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ثاني أكثر الأحزاب التركية شعبية في البلاد، بعد الهزيمة التي مُني بها في الانتخابات البلدية الأخيرة، يوم الأحد المنصرم. فيما حقق حزب الشعب الجمهوري الذي يُعرّف نفسه بأنه ديمقراطي اشتراكي علماني، فوزا كبيرا في 21 مدينة صغيرة و14 مدينة كبيرة، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة وإزمير وبورصة وأضنه وأنطاليا. وبينما اعترف أردوغان بالهزيمة قائلا (سنقيّم نتائج الانتخابات بصدق.. وسنقوم بالنقد الذاتي بشجاعة)، خرج عُمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو إلى أنصاره المحتفلين بالفوز قائلا، إن الانتخابات (تمثل نهاية للديمقراطية المتآكلة في تركيا، وعودة المسار الديمقراطي)، فهل تعني نتائج الانتخابات البلدية التركية الأخيرة نهاية حزب العدالة والتنمية؟
لقد اعترف الرئيس أردوغان بأن نتائج الانتخابات البلدية في تركيا كانت نقطة تحول، ومن المؤكد أنه تحول ضد الحزب الذي يقوده ويحكم البلاد باسمه منذ عام 2002
بداية لا بد من القول بأنه وبعد عشرة أشهر من إعادة انتخابه رئيسا لتركيا، فقد تجرّع أردوغان مرارة الهزيمة التاريخية، خاصة أنه كان يعوّل كثيرا على النتائج بأن تكون لصالح حزبه. كيف لا وهو الذي ألقى كل ثقله في الحملات الانتخابية وقادها بنفسه لكسب ود الناخبين في جميع أنحاء البلاد، وكان يُراهن على استعادة إسطنبول من يد المعارضة، التي كان هو رئيس بلديتها في تسعينيات القرن المنصرم، وانتقلت إلى المعارضة في عام 2019. ورمزية إسطنبول نابعة من عدد سكانها البالغ 16 مليون نسمة، ويقطنها حوالي 20% من موظفي الدولة التركية، كما تمثل أكثر من نصف صادرات وواردات البلاد، وتشكل مع أنقرة وإزمير وأضنه وأنطاليا قرابة نصف الناتج الاقتصادي لتركيا، وبذلك فإن من يسيطر عليها يسيطر على البلاد جميعها.
ويبدو أن عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو الفائز في الانتخابات الأخيرة، كان مُحقا في قوله من أن (أولئك الذين تم تجاهلهم أرسلوا رسالة واضحة إلى من يديرون هذا البلد)، فالصفعة التي وجهها الناخب التركي في انتخابات مايو/أيار الماضي الى المعارضة، وجهها هذه المرة الى حزب العدالة والتنمية. صحيح كان هنالك فوز لحزب العدالة في مايو، لكنه كان فوزا بطعم الخسارة، ولم يكن فوزا بأغلبية كبيرة. ويبدو أنها كانت فرصة أمهل فيها الناخب التركي الحزب الحاكم كي يراجع حساباته، خاصة المتعلقة بالوضع الاقتصادي، لكن على الرغم من مرور عشرة أشهر ووضع فريق اقتصادي جديد، بقي الوضع كما هو ولم يتغير، بل على العكس تدهور الاقتصاد أكثر وارتفع التضخم وباتت المستلزمات الحياتية صعبة المنال. وكل هذا ساهم بشكل كبير في هذه الخسارة. المشكلة أن الحزب الحاكم كانت لديه قناعة راسخة بأنه سيفوز في إسطنبول رغم الصعوبة في ذلك، لكن الفوز كان مؤكدا لديه، من دون إحداث أي تغيرات، أو إجراءات تطمئن المواطن التركي بشكل عام.
أما السبب الآخر الذي أدى إلى الخسارة فيتعلق بالتحالفات السياسية، فقد كان الحزب الحاكم متماسكا نوعا ما في البداية، خاصة في تحالفه مع حزب الحركة القومية، لكنه خسر التحالف مع حزب الرفاه الجديد، الذي سحب أوراقا كثيرة من حزب العدالة والتنمية، خاصة الفئة أو الشريحة المترددة والمحسوبة على الإسلاميين أو المحافظين، التي فضّلت الاتجاه مرة أخرى إلى حزب الرفاه الجديد وحصرت أصواتها فقط له دون غيره. لقد اعترف الرئيس أردوغان بأن نتائج الانتخابات البلدية في تركيا كانت نقطة تحول، ومن المؤكد أنه تحول ضد الحزب الذي يقوده ويحكم البلاد باسمه منذ عام 2002، وحسب بعض المحللين السياسيين فإن فوز حزب الشعب الجمهوري يشكل بداية أفول لعهد حزب العدالة والتنمية. وإذا كان أردوغان قد تعهد بتصحيح الأخطاء، فقد استخلص أكرم إمام أوغلو بعد فوزه للمرة الثانية برئاسة بلدية إسطنبول أن فترة حكم الرجل الواحد قد انتهت وبات يُعتبر منافسا سياسيا قويا لأردوغان، خصوصا أنه حقق فوزه رغم انقسام المعارضة وتشتت أصواتها، لكن باتت اليوم خريطة تركيا بلونين وليس بلون الحزب الحاكم فقط، بعد أن اكتسح حزب الشعب الجمهوري مناطق كانت حتى يوم الأحد الماضي تحت هيمنة الحزب الحاكم، الذي انخفضت نسبة الأصوات المؤيدة له على المستوى الوطني لمصلحة منافسه. وبذلك فنحن أمام خريطة سياسية جديدة لتركيا من شأنها أولا، أن تحول دون محاولة أردوغان تعديل الدستور لمد فترة حكمه. وثانيا أن تعمق الفرز بين التوجه الديني القومي، والتوجه العلماني. فقد حقق حزب الرفاه الجديد مفاجأة في هذه الانتخابات أذ حل ثالثا وبنسبة أكثر بقليل من 6% من الأصوات، لكنها كانت كافية لإظهار بديل إسلامي لحزب العدالة والتنمية. إن الأزمة المستحكمة والمتفاعلة منذ خمسة أعوام والتي عجز الحزب الحاكم عن حلها أفقدت الليرة التركية 80% من قيمتها، ورفعت نسبة التضخم إلى 70% ما جعل أردوغان يتعهد العام الماضي بعد فوزه بولاية الرئاسة الحالية، بأن حل المشكلة الاقتصادية ستكون هي أولويته، لكن المؤشرات الأولى لخطة التقشف التي أُعدت لم تكن مشجعة وها هي انعكست بقوة على الانتخابات البلدية. ومع ذلك يصر الحكم على مواصلتها متوقعا أن تظهر نتائج إيجابية في أجل قريب، ورغم انفتاح دول الخليج على تركيا وعقدها صفقات كبيرة معها وضخها ودائع مالية لدعم العملة الوطنية، إلا أن الأتراك لم يلمسوا أي تغيير في أوضاعهم. كما باءت جهود أردوغان بالفشل لمعالجة جوانب أخرى من الأزمة الاقتصادية، عبر تهدئة التوترات مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، ولم تأت حتى الآن بالنتائج التي توقعها.
إن نتائج الانتخابات البلدية كانت انقلابا كبيرا في المعادلة السياسية التركية، وإن الناخب التركي فتح فصلا جديدا في السياسة للمعارضة وأعطاها مكانا واسعا، وهي رسائل من الشعب التركي تقول بأنها الفرصة الأخيرة للحزب الحاكم. فإذا لم يتم تدارك الأمور خلال المرحلة المقبلة فيمكن أن نرى سيناريو مشابها لما حصل في ثمانينيات القرن المنصرم، عندما أسس توركت أوزال حزب الوطن الأم، لكن بعد غيابه اندثر هذا الحزب ولم يعد له وجود. وعليه يمكن القول بأنه في حالة غياب أردوغان فيمكن أن يكون الرئيس القادم لتركيا هو أكرم إمام أوغلو، خاصة أن الطريق باتت معبدة أمامه في ضوء نتائج هذه الانتخابات. لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن نتائج الانتخابات الأخيرة لا تعتبر ولاء تاما لأكرم إمام أوغلو. فهذه نتائج ساقها الغضب وهي تحذيرية للحزب الحاكم، لكن هل بقي متسع من الوقت كي يلملم الحزب الحاكم أوراقه ويعيد إنتاج نفسه؟