لم يكن أحد يتوقع أن تقوم إسرائيل بالهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، حتى مع معرفتنا بأن إسرائيل، في حاجة ماسة إلى متغير يعيد انتاج دور المظلومية الذي مثلته طويلا، بعد أن فقدت جزءا كبيرا منه في حربها اللاأخلاقية على غزة.
وجميع الأطراف تدرك جيدا أن إيران، هذه المرة، لن تقف عند حدود استخدام وكلائها، وأنها ستضطر للرد بنفسها بشكل مباشر، كما فعلت عند اغتيال قاسم سليماني، وبالشروط نفسها؛ أي أن تكون الضربة محدودة لا تدفع إسرائيل إلى الرد ثانية بحيث يدخل الطرفان في لعبة الردود التي لا يمكن ضبطها، وفي الوقت نفسه تحافظ إيران على صورتها محليا أولا، وإقليميا تحديدا لدى وكلائها وحلفائها.
لكن قواعد اللعبة لا تضعها إيران أو أمريكا وحدهما، بل إسرائيل الغارقة في غزة كذلك، التي تعودت دائما أن لا تقبل بأي لعبة إلا وفق شروطها. خلال السنوات الماضية كان ثمة تهديد إسرائيلي معلن باستهداف البرنامج النووي الإيراني، وقد قالت إسرائيل علنا أن الاتفاق النهائي الذي توصلت اليه أمريكا والدول الغربية مع إيران حول برنامجها النووي في العام 2015، كان «خطأ تاريخيا فادحا» على لسان نتنياهو نفسه، وإن إسرائيل ليست ملزمة به، خاصة أن الاتفاق لم يتضمن أي إشارة إلى الصواريخ البالستية.
في هذا السياق نشرت صحيفة التايمز اللندنية في 10 نيسان 2023 مقالا بعنوان «إسرائيل قد تضطر إلى التعايش مع إيران المسلحة نوويا» لماكس هاستيغر، جاء فيه أن «نتنياهو رئيس وزراء محاصر، وهو يتلمس مبادرات لإحياء سلطته، على الأقل في نظر قاعدته السياسية» وأن من أبرز الخيارات، لديه، أن تشن قواته الجوية ضربة ضد المنشآت النووية الإيرانية!
وكان المانع الرئيسي لهكذا هجوم هو الخشية من إمكانية الردع الإيرانية؛ فالصواريخ البالستية الإيرانية، والتي كانت إيران تعلن عن تطويرها بشكل دائم، وباحتفاء كبير منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، لم تستخدم إلا على نطاق ضيق في قصف أربيل، وقصف قاعدة عين الأسد ردا على اغتيال سليماني، وقد ظلت إمكانياتها وقدراتها التدميرية الحقيقية غير معروفة، أما الطائرات المسيرة الإيرانية شاهد 131، وشاهد 136 الانتحارية ذات الاستخدام الواحد، والمسيرة مهاجر- 6 متعددة المهام، التي أثبتت نجاعتها في الحرب الروسية الأوكرانية، وفي هجمات أخرى للحوثيين على حقل الشيبة النفطي في العربية السعودية عام 2019، وعلى مطار أبو ظبي في العام 2022، فهي لم تختبر في سياق مواجهات طويلة المدى، وضد دفاعات جوية متقدمة.
فالمسافة بين الحدود الإيرانية من أقرب نقطة في قصر شيرين في اتجاه الأهداف الإسرائيلية الرئيسية، تتراوح ما بين 1000 و 1100 كم، وهي مسافة طويلة قياسا إلى المسافة التي استخدمت فيها المسيرات الإيرانية في حرب أوكرانيا، كما أن المدة الزمنية التي تستغرقها الصواريخ البالستية للوصول إلى أهداف على المسافة نفسها ستكون طويلة نسبيا، وهو ما يسهل تتبعها وضربها من قبل منظومات باتريوت أو القبة الحديدية.
إيران، وبسبب وضعها الاقتصادي الصعب، والتحديات التي يواجهها نظامها السياسي، ليست مستعدة للدخول في حرب مفتوحة
لهذا وجدنا أن معظم هذه المسيرات والصواريخ قد تم إسقاطها قبل وصولها إلى الحدود الإسرائيلية، سواء من خلال تدخل القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية في إسقاطها، أو من خلال الطيران الإسرائيلي خارج حدوده، كما أن قسما من المسيرات (غير معروف العدد) فشل في المهمة لأسباب أخرى (تم تداول فيديو لاصطدام طائرة مسيرة بأسلاك الكهرباء مثلا).
لقد كتبت عند بداية الرد الإيراني تغريدة مفادها: أن أهم عنصر لنجاح أي هجوم جوي، هو المباغتة وهو ما لم يتوفر في الرد الإيراني، وبفقدان هذا العنصر فإن المتبقي لنجاح العملية هو قدرة طائراتها المسيّرة على المناورة والوصول إلى أهدافها دون أن تكون أهدافا للقبة الحديدية، فإن نجحت في الوصول إلى أهدافها (والتي هي أهداف مختارة كي تكون الضربة محدودة التأثير هدفها هو الرد وليس الانجرار إلى حرب مفتوحة) فسيكون مجرّد الوصول، بمعزل عن طبيعة الأهداف، نجاحا مهما لإيران. أما إذا فشلت في الوصول إلى أهدافها، فإن خسارة إيران ستكون مضاعفة، لأنها ستكون قد كشفت عن بدائية مسيّراتها، وهكذا ستنتهي استراتيجية الردع التي كانت تحميها خلال السنوات الماضية.
وعندما بدأت الأنباء تتواتر حول فشل المسيرات والصواريخ الإيرانية في الوصول إلى أهدافها، كتبت تغريدة أخرى جاء فيها: ما جرى لحد اللحظة فشل استراتيجي كبير، وعلى إيران أن تسارع لاستدراك هذا الفشل في المرة القادمة، إن كانت هناك نية لرد آخر. فقد اعتمدت إيران، دائما، على استراتيجية ردع عبر صواريخها البالستية ومسيّراتها، وكان هذا وحده ما دفع أمريكا للضغط على إسرائيل لعدم استهداف البرنامج النووي الإيراني، ومنع الولايات المتحدة من التورط ولو بمواجهة محدودة مع إيران. هذا كله انتهى اليوم، فلم تتمكن صواريخها من الوصول إلى أهدافها، وواضح أن المسافة الطويلة قد أبطلت فاعلية المسيّرات الإيرانية. ولم يعد بالنهاية لدى إيران ردع مقابل الردع!
هذا الفشل هو الذي سيدفع إسرائيل لاستغلال اللحظة لضربة مضادة، لاختبار ما تبقى من إمكانيات الردع الإيرانية، لكن المسارات التي ستسلكها الطائرات الإسرائيلية في شن هكذا ضربة (في حال تقرر أن تقوم الطائرات بذلك، وليس الغواصات القادرة على إطلاق صواريخ كروز التي تمتلكها إسرائيل) وطبيعة الأهداف التي سيتم ضربها، هو الذي سيعقد المشهد ويدفع أمريكا إلى مزيد من الضغط على إسرائيل.
فالطائرات الإسرائيلية لا بد لها أن تسلك المسار الآتي: سوريا ـ العراق أو الأردن ـ العراق وصولا إلى إيران، أو السعودية وصولا إلى إيران، وكل طريق له تعقيداته. فإذا ما كان المسار السوري مفتوحا ولا يثير أية إشكالية، فإن المرور بالعراق سيكون محرجا للعراقيين، وهو ما يمكن أن يعيد موضوع خروج القوات الأمريكية من العراق إلى الواجهة بعد أن «سُوِّف» منذ وصول حكومة الإطار التنسيقي الحليف لإيران إلى السلطة. أما مرورها بالأجواء الأردنية والسعودية، فسوف يزيد من التوتر بينها وبين إيران، لاسيما بعد تهديد إيران بالرد على كل دولة تفتح مجالها للطائرات الإسرائيلية.
أما طبيعة الأهداف فلا تقل تعقيدا؛ ففي حالة استغلال نتنياهو الفرصة من أجل مزيد من التصعيد باستهداف المنشآت النووية الإيرانية، فإن هكذا ضربة ستستوجب ردا إيرانيا قويا، بالضرورة، وسوف يدخل الطرفان في مسلسل الرد والرد المضاد، الأمر الذي يمكن أن تنتشر آثاره لتشمل دول أخرى! أما في حال استجابة إسرائيل للضغط الأمريكي، واختيارها أهدافا أقلّ حساسية، فإن إيران، في المقابل، ستقبل بقواعد اللعبة، وتبقي على ردّها ضمن قواعد الاشتباك نفسها!
الجميع يعلم أن إيران، وبسبب وضعها الاقتصادي الصعب، والتحديات التي يواجهها نظامها السياسي، ليست مستعدة للدخول في حرب مفتوحة، ولو عبر الصواريخ والمسيّرات. كما أن إسرائيل نفسها ليست مستعدة في الظروف الحالية للدخول في مواجهة مفتوحة قد تدفع إيران إلى استخدام الأراضي اللبنانية والسورية، وحتى العراقية واليمنية، بشكل أكثر كثافة وعنفا مما يحدث الآن. وهذان العاملان سيكونان حتما حاضرين بقوة في صياغة الردود والردود المضادة!