اعتادت إسرائيل منذ قامت أن تتحرك ضد الشعب الفلسطيني وضد الشعوب العربية معتمدة على دعم عسكري ومالي ودبلوماسي غربي، كانت دوما في صدارته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا. واعتادت إسرائيل، أيضا ومنذ قيامها، في حروبها ضد العرب واحتلالها لأراضيهم واستيطانها لفلسطين وإلغاء حقوق شعبها أن تتجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها لها العواصم الغربية وتتوقع منها عدم المساس بها. وفي المقابل، اعتاد الغربيون ومنذ ما قبل قيام إسرائيل التسليم بالأمر الواقع الذي كانت الحركة الصهيونية تفرضه على الأرض قبل 1948 ثم صارت الدولة العبرية تفرضه بقوة السلاح مستغلة دعم الغرب وتواطؤ البدايات.
هكذا كان حال بريطانيا مع الجرائم الإرهابية للعصابات الصهيونية قبل 1948 التي دفعت لندن، من بين عوامل أخرى، إلى الانسحاب من مهمة الانتداب الموكولة إليها أمميا بعد أن مكنت الحركة الصهيونية من اختطاف فلسطين. وهكذا كان حال الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى حين تجاوزت الحركة الصهيونية مقتضيات قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة واستولت على مساحة أكبر من أرض فلسطين وارتكبت فظائع بحق أصحاب الأرض قتلا وتشريدا وتهجيرا وأعلنت عن قيام إسرائيل في 1948.
وتكرر ذات الأمر في حرب 1967 حين لم تتوقف تل أبيب عند حدود توجيه ضربة عسكرية قاصمة لمصر، بل تجاوزت كسر الجيش المصري واحتلال سيناء والقضاء على المشروع العروبي لجمال عبد الناصر لاحتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية الخاضعتين قبل الحرب للإدارة الأردنية الهاشمية واللتين كان الغرب يرغب في الإبقاء على وضعهما دون تغيير حماية للملكيات العربية المتحالفة معه ضد الجمهوريات العروبية. وفي حرب لبنان 1982، ضربت إسرائيل عرض الحائط بالخطوط الحمراء الأمريكية والفرنسية التي كانت تقضي بتدخل عسكري محدود لتحييد حركة المقاومة الفلسطينية، واحتلت البلد العربي بأكمله ودمرت عاصمته وطردت منظمة التحرير الفلسطينية من البيئة المجتمعية التي احتضنتها لسنوات وارتكبت (على نحو مباشر وغير مباشر) جرائم ضد الإنسانية (صبرا وشاتيلا) لم تحاسب أبدا عليها.
واستمر خليط تواطؤ الغرب مع إسرائيل في البدايات ثم تجاوز الدولة العبرية للخطوط الأمريكية والأوروبية الحمراء منذ بدأت عملية سلام الشرق الأوسط في تسعينيات القرن العشرين (مؤتمر مدريد) وطوال عقود مفاوضات واتفاقيات أوسلو وانتفاضات الشعب الفلسطيني المتكررة في وجه الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري، ولم تكن النتيجة الوحيدة لذلك الخليط الذي أفقد الغرب كامل مصداقيته الأخلاقية والسياسية لدى الشعوب العربية سوى إلغاء الحق الأصيل للفلسطينيين في تقرير المصير ولمنطقتنا في الأمن والاستقرار والرخاء. وربما لن نجد في التاريخ الطويل للصراع العربي الإسرائيلي سوى لحظة وحيدة لرفض بعض الغرب، تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، لتجاوز الدولة العبرية للخطوط الحمراء وللحيلولة دون حصولها على «مكاسب» لم يتفق عليها، ألا وهي حرب السويس في 1956. فبعد العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر في أعقاب تأميم (تمصير) القناة، اضطرت تل أبيب إلى الانسحاب من الأراضي المصرية التي احتلتها والعودة إلى خطوط الهدنة بعد أن اشتركت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي السابق في توجيه الإنذار الثنائي الشهير وأجبرت حليفتيها الغربيتين وإسرائيل على وقف العدوان.
إسرائيل حتما ستتجاوز الخطوط الحمراء الغربية وستذهب في اتجاه اجتياح بري لرفح غير عابئة بالكلفة الإنسانية والسياسية
واليوم، وحين تتداول وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية أنباء الخلافات بين واشنطن ولندن وباريس وبرلين وبين تل أبيب بشأن الأوضاع الإنسانية في غزة وخطر المجاعة المحدق بأهلها وتسرد «القصص» عن تحذيرات المسؤولين الغربيين لحكومة بنيامين نتنياهو من المزيد من تردي الأوضاع في القطاع، علينا أن نتذكر ذلك الخليط المعتاد من تواطؤ البدايات المتبوع بخطوط حمراء غربية تتجاوزها إسرائيل. فالأمر لا يخرج أبدا عن حدود ما عهدناه منذ بدء المشروع الصهيوني في فلسطين وتقلبات الصراع العربي الإسرائيلي.
فقد أطلقت الولايات المتحدة والدول الأوروبية العنان لحكومة نتنياهو للانتقام الجماعي من غزة وأهلها في أعقاب هجمات حماس والفصائل الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023، وتبنت الهدف الإسرائيلي المتمثل في تدمير حماس وإخراجها من القطاع غير عابئة بالكلفة الإنسانية للحرب. بل، وبعيدا عن «حج» الرسميين الغربيين إلى تل أبيب لإظهار التعاطف وإبداء التضامن، سارعت الحكومات الغربية إلى تقديم كافة أشكال الدعم العسكري والمالي والسياسي والدبلوماسي للحكومة الإسرائيلية وتجاهلت ومنذ اليوم الأول لحرب غزة العدد المفزع من الضحايا المدنيين والدمار الشامل الذي كان يحل بشمال ووسط القطاع وعمليات التهجير الواسعة للسكان من الشمال والوسط في اتجاه الجنوب. سياسيا، تجاهلت إدارة بايدن والحكومات الأوروبية الكلفة الإنسانية وواصلت طوال الشهور الماضية رفض الضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب ووقف إطلاق النار وذلك من خلال وقف أو وضع شروط على دعمها السخي المقدم لنتنياهو وحكومته المتطرفة.
فقط، قبيل نهايات 2023 وحين بات واضحا أن إسرائيل تتجه نحو إعادة احتلال قطاع غزة في الحد الأقصى أو التأسيس لوجود عسكري طويل بداخله في الحد الأدنى وأنها حتما ستواصل عملياتها العسكرية في الجنوب وفي اتجاه مدينة رفح بعد أن دمرت الشمال والوسط بالكامل وأن الثلاثين ألفا من الضحايا المدنيين وخطر المجاعة والأوضاع الإنسانية المزرية لا يعني نتنياهو ومتطرفي حكومته كثيرا، فقط حينها شرعت الحكومات الغربية في الإعلان عن بعض الخطوط الحمراء التي يتعين على الدولة العبرية الالتزام بها كالسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع والتوافق مع الغرب بشأن ضمانات حماية المدنيين قبل مواصلة العمليات العسكرية خاصة الاجتياح البري لرفح الفلسطينية والابتعاد عن الضغط على الفلسطينيين الذين احتموا برفح لتركها في اتجاه الحدود المصرية وتمكينهم من العودة «الآمنة» إلى شمال ووسط القطاع.
وتواترت في هذا السياق تصريحات المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين عن إمكانية وضع بعض الشروط على دعمهم لإسرائيل إن لم تلتزم بتلك الخطوط الحمراء. وتناقلت وسائل الإعلام الغربية تقارير عن «مكالمات هاتفية غاضبة» بين رسميين غربيين وبين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين تعلقت بالمساعدات الإنسانية وباجتياح رفح وبحتمية الرد المحدود على مسيرات وصواريخ إيران التي شارك الغرب في إسقاطها قبل أن تصل إلى إسرائيل.
والحال، وعلى الرغم من أن مستويات المساعدات الإنسانية ارتفعت بكل تأكيد بعد ضغوط الأمريكيين والأوروبيين، أن إسرائيل حتما ستتجاوز الخطوط الحمراء الغربية وستذهب في اتجاه اجتياح بري لرفح غير عابئة بالكلفة الإنسانية والسياسية وستؤسس لوجود عسكري طويل المدى في القطاع ولن تتوقف عن التصعيد المحسوب ضد إيران لأنها تدرك جيدا حدود لعبة خليط تواطؤ البدايات وخطوط النهايات الحمراء.