منذ اعترفت إدارة الرئيس ترومان في الولايات المتحدة الأمريكية كأول دولة في النظام العالمي بقيام ما يُسمى «دولة إسرائيل» ـ عام 1948 ـ لاوالولايات المتحدة هي الراعية والمدافعة والمناصرة الأولى لوكيلها الإقليمي ونظام الاحتلال وقاعدتها المتقدمة، حتى لو خالفت وتحدت العالم بمفردها.
وتثبت الولايات المتحدة الأمريكية أنها قولاً وفعلاً ـ الشريك الأول الراعي والممول والمسلح والداعم لجميع سياسات إسرائيل وحروبها واحتلالها وتنكيلها بالفلسطينيين. ولا تكترث أمريكا لتناقضات خطابها ومواقفها. أدرك اليهود بفكرهم وممارساتهم النازية كيفية السيطرة على مقاليد النظام السياسي الأمريكي، بالهجرة المفتوحة منذ المحرقة في الحرب العالمية الثانية من مخيمات النازية من أوروبا الشرقية إلى أمريكا.
أتقن اليهود كيف تؤكل الكتف والآلية التي من خلالها تمكنهم التحكم بمقاليد الأنظمة في الغرب. ونجحوا بعقليتهم الصهيونية بتأسيس كيان الاحتلال بتدرج دموي وتوسع استيطاني في فلسطين، بدعم بريطاني وأمريكي وغربي وعقدة الذنب الألمانية التي لا تزال تسدد الفواتير بالخضوع لتجاوزات ووحشية الاحتلال الصهيوني.
برغم محدودية عددهم ونسبتهم إلى سكان الولايات المتحدة الأمريكية حيث لا يتجاوز عددهم 6 ملايين يهودي أمريكي ونسبتهم 2 في المئة من الشعب الأمريكي، لكنهم يسيطرون على عصب النظام السياسي الأمريكي ومراكز صنع القرار: المؤسسات المالية والثقافية ومراكز الدراسات والمؤسسات الإعلامية، ليرعبوا من يجرؤ على انتقاد سياستهم وتجاوزاتهم.
استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو 44 مرة من 84 مرة- في تسييس ودعم للباطل والعدوان وتهميش لدور الأمم المتحدة بإساءة واضحة لاستخدام الفيتو لحماية إسرائيل ـ منها 4 مرات منذ 7 أكتوبر 2023 لرفض وقف الحرب على غزة دعماً لأهداف الحرب الهلامية بالقضاء على حماس والإفراج عن الأسرى وتحييد غزة حتى لا تبقى مصدرا للاعتداءات على إسرائيل وتكرار 7 أكتوبر آخر. واستخدمت إدارة بايدن الفيتو قبل أيام بمخالفة إجماع دول العالم، وأسقطت مشروع قرار يمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، برغم ادعاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة التمسك بحل الدولتين لإنهاء حالة الصراع.
وشهدنا منتصف هذا الشهر مشاركة تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن وبتنسيق مع حلفاء أمريكا العرب، إسقاط معظم 330 مسيرة وصواريخ إيرانية (في الضربة الانتقامية على اغتيال إسرائيل قيادات ومستشارين للحرس الثوري الإيراني في قنصلية إيران في دمشق) فوق العراق وسوريا والأردن قبل وصول الصواريخ والمسيرات الإيرانية إلى أهدافها داخل الكيان!
تبقى إسرائيل الدولة الأولى التي تتلقى مساعدات مالية وعسكرية أمريكية، تتجاوز قيمتها 150 مليار دولار منذ عام 1948. وصادق الرئيس بايدن الأسبوع الماضي على قانون صدر بأغلبية أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأمريكي بدعم واسع ونادر وغير محدود لإسرائيل من الحزبين بتخصيص 26 مليار دولار ـ أكبر حزمة مساعدات في تاريخ العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية لدعم حربها على غزة، بينما خصص مليار دولار مساعدات إنسانية لغزة! ما يثبت أن النظام الأمريكي برمته من الرئاسة والكونغرس والإعلام الأمريكي يصطف داعماً الوكيل الإسرائيلي، وذلك برغم حرب الإبادة واستشهاد 34 ألف فلسطيني وجرح 80 ألف بسلاح ودعم أمريكي والتحضير لاقتحام رفح!
تثبت الولايات المتحدة الأمريكية أنها قولاً وفعلاً-الشريك الأول الراعي والممول والمسلح والداعم لجميع سياسات إسرائيل وحروبها واحتلالها وتنكيلها بالفلسطينيين
والملفت اصطفاف وتواطؤ الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع إسرائيل بدعم وتغطية جرائمها وتجاوزاتها، حتى ضد الولايات المتحدة. قتلت إسرائيل 34 بحاراً ومارينز بقصف سفينة التنصت الأمريكية ليبرتي متعمدة لتغطي على جرائمها في حرب يونيو 1967، دون فتح أمريكا تحقيقا بالحادثة!
لكن التحول الواضح في أشهر حرب الإبادة السبعة الصهيونية على غزة، هو كسر هيبة الردع الإسرائيلية على يد المقاومة الفلسطينية وإيران. وفي صحوة تتعمق عند الجيل العربي والغربي والأوروبي، نشهد ذلك بالخطابات والمواقف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي والمظاهرات المليونية التي تخرج في عواصم ومدن أوروبا وأمريكا. والأهم حركة الاعتصامات والاحتجاجات في عشرات الجامعات الأمريكية من الشرق إلى الوسط والغرب، لم يشهدها المجتمع الأمريكي الأكاديمي منذ حرب فيتنام- وخاصة في جامعات النخبة التي تخرج قادة المستقبل وصناع القرار، منددة ورافضة لجرائم إبادة إسرائيل على غزة!
لا شك أن ذلك كله يحرج بايدن وإدارته لدعمهم المخالف لقيمهم وتناقض محاضراتهم وازدواجية معاييرهم عن ركائز وأهداف سياسته الخارجية، باحترام العدالة وحقوق الإنسان التي يتشدقون بها بدعم أوكرانيا بمواجهة حرب روسيا، بفرض عقوبات ومقاطعة روسيا لجرائمها، بينما لا يجرؤ بايدن وحكومات أوروبا على فرض عقوبات على جرائم ومجازر إسرائيل، والمقابر الجماعية والعقاب الجماعي والتطهير العرقي الإسرائيلي جهاراً ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بشكل ممنهج ويومي لأكثر من 200 يوم! ما يسقط أمريكا أخلاقياً!
دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة ترديد أهمية «العلاقة الخاصة مع إسرائيل»! وأن إسرائيل هي بالفعل الوكيل الاستعماري لأمريكا والغرب (بالاحتلال الإمبريالي ـ الاستيطاني في الشرق الأوسط) ـ ويذهب البعض في واشنطن لوصف إسرائيل «حاملة الطائرات الأمريكية في المنطقة»!
منح الرئيس ريغان إسرائيل صفة «حليف رئيسي من خارج حلف الناتو عام 1987 في ترقية للعلاقة الاستراتيجية، لكن لم تخدم بلطجة وجرائم وحروب إسرائيل مصالح أمريكا، بل بالعكس هددت بسياساتها وتطرف مواقفها مصالح أمريكا في الشرق الأوسط. بتفاخر وبمجاهرة نتنياهو أنه هو من عطل حل الدولتين واستمر بالتوسع الاستيطاني ومصادرة أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، ورفض الهدن في حرب غزة، والاستجابة بعدم التصعيد مع إيران ومطالب بايدن بعدم اقتحام رفح، ورفضه زيادة المساعدات لغزة!
كما لم تدعم إسرائيل حروب الولايات المتحدة على الإرهاب، بل تساهم سياساتها بارتفاع منسوب العداء الشعبي العربي ـ والإسلامي لأمريكا، وتحرج مواقفها حلفاء واشنطن العرب والمسلمين، وترفع أسهم وشعبية إيران وحلفائها في المنطقة لتصديهم وتحديهم بمفردهم، كما تابع العرب والمسلمون قصف إسرائيل بمسيرات وصواريخ إيرانية!
وهكذا تخسر أمريكا «كسب عقول وقلوب العرب» وتدفع فاتورة باهظة لمهادنتها إسرائيل التي تحولت من وكيل برصيد استراتيجي، إلى عبء استراتيجي مكلف!