تجمع الأوساط السياسية والقيادية الإيرانية أن الشيخ هاشمي رفسنجاني لعب دوراً محورياً وأساساً في إقناع زعيم الثورة والمرشد المؤسس للنظام السيد الخميني يوم الـ18 من يوليو (تموز) 1989 بضرورة أن توافق أو تقبل إيران قرار مجلس الأمن الدولي رقم (598) الصادر قبل تاريخ الـ 20 من يوليو 1987، والذي أنهى الأعمال القتالية وأوقف إطلاق النار في الحرب العراقية – الإيرانية.
رفسنجاني عيّنه الخميني حينها قائداً أعلى للقوات المسلحة نيابة عنه بعد سلسلة خسائر لحقت بالقوات المسلحة الإيرانية على الجبهة مع العراق، وتراجع قدرات إيران القتالية من حيث المعدات والتجهيزات، فضلاً عن عجز الدولة في تأمين المتطلبات المالية لشراء الأسلحة من السوق السوداء، إضافة إلى تراجع الاندفاعة الشعبية بالتبرع لدعم الحرب على المستويين المادي والبشري، وكلها شكلت عوامل أساساً استخدمها رفسنجاني لإقناع الخميني بضرورة القبول بهذا القرار الذي وصفه المؤسس حينها أنه بمثابة “تجرع السم”.
وإذا ما كان رفسنجاني قد استطاع الحصول على موافقة الخميني حول وقف الحرب فإنه فشل في الحصول على موافقة المؤسس أو دفعه إلى اتخاذ قرار يتعلق بضرورة الدخول في حوار مع الولايات المتحدة الأميركية، وبخاصة في تلك المرحلة الحساسة، وما يعنيه ذلك من فتح الطريق أمام القيادة السياسية في الدولة لفتح قنوات تواصل مع الإدارة الأميركية لإعادة ترطيب العلاقات واستعادتها خلال حياته، لأنه الأقدر من الناحية العقائدية والأيديولوجية والقيادية على التصدي لأي حال اعتراضية قد تنشأ من وراء هذه الخطوة في الداخل، بخاصة أن غيابه عن المشهد سيعقد الأمور على من سيخلفه في هذا الموقع ويكبله أمام القوى المعارضة لهذه العلاقات، وبالتالي ستكون إيران عالقة في دوامة التوتر والعقوبات والحصار مما سيعوق أو يعرقل عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية وعملية إعادة الإعمار والخروج من آثار الحرب بشكل سريع.
وقد يكون لدى المؤسس رغبة في إنهاء التوتر الذي كان سائداً في العلاقة بين طهران وواشنطن، وقد يكون الوقت لم يسعفه لاتخاذ هذه الخطوة التي تحتاج إلى كثير من الإجراءات والمواقف التمهيدية التي تخرجه من الحرج الأيديولوجي والعقائدي، بخاصة أن أساس الفكرة أو الخطوة لم تجد معارضة من السيد الخميني في كثير من المفاصل كما حصل في فضيحة “إيران – كونترا” وبعدها في اللقاءات التي جرت بين مبعوثين إيرانيين في البيت الأبيض وخارجه، ولذلك يمكن القول إنها هذه العلاقة بقيت في دائرة التوتر وانتقلت بالإرث إلى خليفته الذي وجد صعوبة في اتخاذ خطوة حاسمة واستثنائية، على رغم توفر كثير من الفرص للقيام بهذا الأمر.
والفرصة التي سنحت أمام النظام الإيراني عام 2015 وبالتوازي مع المفاوضات المباشرة التي حصلت بين الطرفين حول الاتفاق النووي، كان من الممكن أن تشكلا نقلة نوعية في سياق الجهود لتخفيف حدة التوتر بين الطرفين والانتقال إلى مرحلة جديدة، إلا أن المرشد الأعلى الذي رفع سقف موقفه الأيديولوجي كثيراً، إضافة إلى مستلزمات الصراع الداخلي على السلطة ومستقبل النظام، والأهم موقع مؤسسة “حرس الثورة” في معادلة القرار الإستراتيجي والمبنية والقائمة على نظام مصالحها في السلطة، حالت دون متابعة مسار الانفتاح الذي مهد له الاتفاق النووي، وقد زاد حدة هذا التردد والامتناع ما اتخذته إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب من إجراءات ومواقف أسهمت في تعقيد الموقف وذهاب النظام في طهران إلى مواقف أكثر تشدداً، نتيجة انهيار الثقة التي بدأت تتبلور بخجل في مرحلة الرئيس الأسبق باراك أوباما.
وبغض النظر عن كثير من الأحداث والتطورات التي كانت توحي بعودة نسبة الحرارة على خط التواصل بين الطرفين، وبخاصة في التفاهم غير المكتوب الذي جرى حول تبادل المعتقلين والإفراج عن بعض الحسابات المالية المجمدة في البنوك الكورية الجنوبية لمصلحة طهران، وصولاً إلى التفاهم غير المكتوب أيضاً على تحييد الساحة العراقية، ولا سيما بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بين إسرائيل وحركة “حماس” والحرب في قطاع غزة، إلا أن التطور الذي حدث يوم الـ13 وفجر الـ14 من شهر أبريل (نيسان) الماضي والهجوم الصاروخي والمسير الإيراني على الداخل الإسرائيلي قد أدخل منطقة الشرق الأوسط بخاصة وغرب آسيا عامة في مرحلة جديدة، ظهرت فيها إيران ونظامها وكأنهما يعملان من أجل تكريس أو فرض معادلة جديدة في الإقليم تجعل من الصعب على اللاعب الأميركي أو أي لاعب إقليمي تجاوز دور وموقع إيران فيها، من خلال توجيه رسالة واضحة بأنها مع تحالفاتها في المنطقة قادرة على عرقلة أية مشاريع حلول أو تسويات لا تكون فيها شريكاً فاعلاً وصاحب حصة على طاولة التفاوض والتقاسم لمناطق النفوذ، مع إدراك تام وواضح مقرون بالاستعداد أيضاً بأن الوصول إلى هذا الهدف لا يمكن أن يمر من دون حصول تفاهم وحوار مع الطرف الممسك بأطراف القرار، أي الولايات المتحدة الأميركية.
هذا الإدراك المقرون بالاستعداد قد لا يكون كافياً، إذ إنه بحاجة إلى خطوات عملية تتعلق وترتبط بآليات تمرير مثل هذا التحول والنقلة النوعية في المواقف، وقد لا يكون بعيداً من الحقيقة إذا ما وصف الوضع الداخلي الإيراني في هذه المرحلة بالوضع الذي كان سائداً قبل رحيل المؤسس وإنهاء الحرب العراقية – الإيرانية، لجهة الانشغال الكبير في أزمة ترتيب البيت الداخلي وعملية الانتقال السلسة بين المرشد الحالي وخليفته، أو من حيث الجدل حول ضرورات عودة قنوات الحوار بين طهران وواشنطن بأي شكل، سواء كان مباشراً أو غير مباشر، ومدى ارتباط ذلك بموقف المرشد الجديد.
وقد تكون بعض الدوائر الإيرانية، وبخاصة داخل حرس الثورة، تدفع باتجاه تمهيد الطريق لمثل هذه الخطوة في ظل وجود المرشد الحالي، وأن يتحمل مسؤولية مثل هذا القرار الذي سيزيح الحرج عنها وعن المرشد الجديد أو التالي الناتج من هذه الخطوة الإستراتيجية وأبعادها الأيديولوجية، لأن ترك مسألة الصراع مع أميركا مفتوحة قد تدفع هذا الخليفة إلى البقاء في الدوامة نفسها، وأن لا يتخذ خطوة لم يقم على اتخاذها أي من أسلافه في هذا الموقع، لما لها من أبعاد أيديولوجية وعقائدية مركبة ومعقدة. وبالتالي قد تكون القيادة الإيرانية في موقف دقيق يتعلق بضرورة اتخاذ مثل هذه الخطوة التي ستنقل العلاقة بين طهران وواشنطن من حال العداء المعلن إلى حال تشبه في البداية موقف “الحياد الإيجابي”، وتسمح بإعادة ترميم الثقة بينهما وتفتح الطريق أمام النظام في مرحلة المرشد الحالي وخليفته لتطوير هذه العلاقة، وبناء معادلات جديدة في الإقليم ومنطقة غرب آسيا بالشراكة مع واشنطن.