لم يكن سلوكاً مستغرباً من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أن يجمع بين إحياء ذكرى الهولوكوست في متحف ياد فاشيم، وبين إعلان تصميمه على إرسال الجيش الإسرائيلي لاجتياح مدينة رفح وارتكاب مجزرة جديدة مروعة لن تكون أقلّ من تذكير صريح بأنّ أهوال المحرقة تُستعاد هذه الأيام لكن بأيدي أحفاد الضحايا المنقلبين إلى جلادين ومجرمي حرب.
كذلك لم يكن طارئاً على ألاعيب نتنياهو، في مخادعة الرأي العام العالمي وابتزازه واستدرار الشفقة عن طريق استدعاء ذاكرة الهولوكوست، أنه لم يستخدم اللغة الإنكليزية في خطابه ذاك إلا حين أوحى بأن العالم يمكن أن يتخلى عن دولة الاحتلال، وأنها مع ذلك سوف تقاتل وحيدة إذا اضطرت إلى ذلك، مستغفلاً العقول التي لا يخفى عليها مقادير ما تمتعت وتتمتع به دولة الاحتلال من مساندة أو تواطؤ الولايات المتحدة والغرب عموماً.
ساعات قليلة فصلت بين هذا الخطاب المتشدد والمتباكي في آن معاً، وبين مسارعة جيش الاحتلال إلى إلقاء منشورات على سكان مدينة رفح، تطالبهم بإخلاء الأحياء الشرقية للمدينة والتوجه إلى منطقة المواصي جنوبي غرب القطاع. وفي غضون وعيد نتنياهو وإنذار جيش الاحتلال، لم يتوقف القصف الوحشي الإسرائيلي على عموم قطاع غزة، ثم على رفح، من دون استثناء منطقة المواصي ذاتها التي يُؤمر السكان بالتوجه إليها.
ولقد بات ثابتاً ومعروفاً أن اجتياح رفح ظل أحد الخيارات القصوى أمام نتنياهو لإدامة حرب الإبادة ضد القطاع، وتأجيل انهيار ائتلافه الحاكم إذا توقف العدوان، والهرب إلى الأمام من استحقاقات قضائية وانتخابية يمكن أن تقوده إلى السجن قبيل سلة مهملات التاريخ.
كذلك ظل هذا الخيار أداة ابتزاز يستخدمها نتنياهو كلما أراد جرّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تقديم تنازل هنا أو التراجع عن ضغط هناك، ولا فرق يُعتدّ به إزاء أي اعتراض أمريكي في كل حال لأن وزير دفاع الاحتلال أبلغ نظيره الأمريكي بقرار البدء في الاجتياح، وكذلك فعل مع وزير الخارجية الأمريكي، بما يدل على أن نتنياهو غير مكترث حتى باطلاع سيد البيت الأبيض شخصياً على القرار والتوقيت.
واضح في المقابل أن الجديد في التوقيت الراهن خلف التلويح باجتياح رفح يتمثل في إفشال مفاوضات صفقة التبادل والهدنة التي تشهدها القاهرة، أو حتى نسفها نهائياً، استكمالاً لإجراء حظر قناة «الجزيرة» بما قد ينطوي عليه من استفزاز للوسيط القطري. غير جديد، وغير مفاجئ بدوره، أن يتزامن التوقيت مع وقائع مثل إحياء ذكرى الهولوكوست، وتواجد مدير المخابرات المركزية الأمريكية في المنطقة، وتصريحات مصدر مصري «رفيع المستوى» بأن قصف كرم أبو سالم تسبب في تعثر المفاوضات وكأن استشهاد عشرات الفلسطينيين يومياً لا يفسد للتفاوض قضية.
فإذا بدأ اجتياح رفح فعلياً فإن تزامنه مع التطورات والوقائع والملابسات، السابقة أو سواها مما طرأ أو سيطرأ، لا علاقة له بقوانين الصدفة، إذ يندرج مباشرة في قوانين حرب الإبادة وتكرار أو استئناف جرائم الحرب التي تذكّر بأهوال الهولوكوست الأبشع.