قام الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، في 22 أبريل 2024، بزيارة رسمية للعراق، وهى أول زيارة له بعد فترة انقطاع دامت 13 عاماً، حيث كانت آخر زيارة له عام 2011 وكان وقتها رئيساً للحكومة. وتأتى الزيارة فى ظل توقيت غاية فى الصعوبة داخلياً وخارجياً. فعلى المستوى الداخلى، تعانى الدولتان من أزمة اقتصادية صعبة ومؤثرة، كما تواجهان تهديدات أمنية عابرة للحدود نتيجة لنشاط حزب العمال الكردستانى التركى المعارض فى منطقة الحدود البينية.
وعلى المستوى الإقليمى، تتأثر الدولتان بتداعيات “معادلة التفاعلات الإقليمية الصعبة” فى منطقة المشرق العربى التى تشهد تحولات وتطورات سريعة وتجاذبات دولية واسعة أسهمت بدورها فى تعقيد مجمل المشهد الإقليمى بها، لاسيما مع التطورات الجديدة التى فرضتها عملية طوفان الأقصى التى قامت بها حركة حماس ضد الاحتلال الإسرائيلى فى 7 أكتوبر 2023، وما أعقبها من عدوان إسرائيلى غاشم على قطاع غزة، الأمر الذى خلق واقعاً إقليمياً أكثر تعقيداً فى منطقة الشرق الأوسط عامة، والمشرق العربى على وجه الخصوص.
إذ أدى العدوان الإسرائيلى المستمر على القطاع إلى تفعيل ما يسمى بـ”محور المقاومة الإقليمى” -الذى تتزعمه إيران- لدوره العسكرى فى إسناد المقاومة الفلسطينية؛ والعراق تحديداً يشكل حلقة من حلقات التأثير والتأثر فى مجريات عمل هذا المحور نتيجة لتفاعلات المليشيات العراقية المسلحة الموالية لإيران عسكرياً مع المصالح الأمريكية فى المنطقة، رداً على الدعم المطلق الذى تقدمه الإدارة الإمريكية لإسرائيل فى عدوانها الحالى على قطاع غزة.
وسط تلك التفاعلات، تحمل زيارة الرئيس التركى لبغداد العديد من الملفات المشتركة التى يشهد بعضها تعاوناً ثنائياً فعالاً، بينما يشهد البعض الآخر منها تعارضاً فى الرؤى المشتركة بصورة تجعل منها “إشكاليات” فعلية تؤثر سلباً على نمط التفاعل بين البلدين، من أبرزها ملفات أمن الحدود والمياه والنفط، ما يطرح تساؤلات حول الأهداف الفعلية من تلك الزيارة من ناحية، ومدى إسهامها فى حلحلة وفك التعقيدات بالنسبة للإشكاليات العالقة بين البلدين من ناحية ثانية.
بمعنى أكثر دقة، هل تمثل الزيارة فعلياً تدشيناً لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين فى ظل التطورات الراهنة؟، أم أنها مجرد زيارة لإعادة ترتيب أولويات الملفات المشتركة فقط، دون أن تؤدى إلى رسم “خارطة طريق استراتيجية شاملة ” للعلاقات بين البلدين مستقبلاً؟
قناعات سياسية متبادلة
اللافت هنا هو وجود “قناعة” أو “إدراك” سياسى لدى قيادات الدولتين بأن ثمة تفاعلات راهنة فى المنطقة تفرض مزيداً من الالتقاء فى الرؤى بشأن العديد من الملفات المعلقة بين الدولتين، وأن هذا الإدراك نابع من رغبة مشتركة لدى كل من الرئيس التركى أردوغان ورئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى باعتماد التسوية السياسية للإشكاليات البينية عبر آلية الحوار، وليس عبر تفعيل القدرات العسكرية من قبل أنقرة تجاه تهديد سيادة العراق كدولة عبر عملياتها العسكرية المستمرة فى مناطقه الشمالية، لأن آلية الحوار هى الوحيدة فى ظل توترات المنطقة القادرة على علاج ملفات التعارض الصعبة بين البلدين وفى مقدمتها الأمن والمياه، وهو ما تم بالفعل معالجته عبر “التفاهم الأمنى المشترك” الذى بمقتضاه وافقت الحكومة العراقية على قيام تركيا بعملية تمشيط أمنية واسعة ضد عناصر حزب العمال الكردستانى التركى المعارض على مسافة 30 كيلومتر فى منطقة الحدود البينية خلال شهر مارس 2024 والمعروفة بعملية “الحزام الأمنى”.
كما يلاحظ أيضاً، أن زيارة أردوغان لبغداد جاءت بعد عودة رئيس الوزراء العراقى شياع السودانى من زيارة رسمية قام بها للولايات المتحدة فى 15 أبريل الجارى، والتقى فيها بالرئيس الأمريكى جو بايدن. وهنا تشير بعض الآراء إلى أن بايدن ربما نصح السودانى بضرورة تفعيل العلاقات الثنائية مع قوى إقليمية وازنة كإحدى الوسائل لتخفيف الضغط الذى تمارسه إيران على حكومته بشأن تفاعلات بغداد الخارجية على المستوى الإقليمى، خاصة وأن السودانى كان قد سبق أن صرح خلال زيارته لواشنطن بأن العراق وتركيا لديهما، وللمرة الأولى، رغبة حقيقية فى التوصل لحلول للملفات العالقة بينهما، بدلاً من ترحيلها، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن رؤية إيران لزيارة الرئيس التركى لبغداد، أو بمعنى أكثر دقة هل ستسمح إيران بهامش حركة للسودانى تجاه تركيا، وما يعنيه ذلك من زيادة متوقعة للنفوذ التركى فى العراق الذى يُعد مرتكزاً رئيسياً للمصالح الإيرانية فى المنطقة؟.
الإجابة على هذه التساؤلات ترتبط إلى حد كبير بحجم الأهداف التى تحملها زيارة أردوغان للعراق، وما يمكن تحقيقه منها فعلياً على أرض الواقع، ويرتبط كذلك بنوعية هذه الأهداف؛ لأن ترقية التعاون الاقتصادى (الأهداف الاقتصادية للزيارة) بين تركيا والعراق من شأنها علاج بعض تداعيات الأزمة الاقتصادية التى تواجهها بغداد، ومن ثم فهو أمر لا يتعارض كلية مع النفوذ الإيرانى فيه بل يخدمه بصورة ما. لكن المشكلة تكمن فى الأهداف الأمنية من تلك الزيارة؛ لأنها تتماس بالضرورة مع طبيعة النفوذ السياسى والعسكرى الذى توظفه إيران فى العراق عبر المليشيات الموالية لها عسكرياً، والقوى والأحزاب المتماهية معها سياسياً؛ وتحديداً قوى الإطار التنسيقى وقوى الحشد الشعبى العسكرية.
أهداف الزيارة
تبدو هنا ملفات التعاون الأمنى حاضرة على أولويات أجندة زيارة أردوغان لبغداد؛ والمتضمنة لنشاط حزب العمال الكردستانى التركى المعارض، الذى يتخذ من الأراضى العراقية منطلقاً لتنفيذ عملياته باتجاه الحدود التركية. وجدير بالذكر أن هذا الملف شهد فى الآونة الأخيرة قدراً كبيراً من التفاهم بين البلدين، وتحديداً بالنسبة للعراق منذ تولى السودانى رئاسة الحكومة، فبالرغم من تشدده حيال أى عملية عسكرية تقوم بها تركيا فى شمال العراق باعتبارها تهدد سيادة دولته، إلا أنه فى الوقت نفسه أبدى نوعاً من “التفاهم” حيال الهواجس الأمنية التركية، وتبلور هذا الموقف فى تصريحاته الدائمة التى قال فيها أنه “لن يسمح بأن تكون الأراضى العراقية منطلقاً للاعتداء على تركيا”، وانعكس هذا التصريح عملياً فى “تفاهمات ضمنية” على عملية الحزام الأمنى التى قامت بها تركيا فى مناطق سنجار شمال العراق كما سبقت الإشارة إليه.
ويرتبط بالتفاهمات الأمنية بين الجانبين التركى والعراقى انطلاقاً من تفاهمات عملية “الحزام الأمنى” ضرورة التأطير القانونى لمخرجات أو للنتائج المترتبة على هذه العملية؛ بمعنى أن الوجود التركى فى شمال العراق ولمسافة 30 كيلومتر يخلق واقعاً عملياً على الأرض يتمثل فى وجود قواعد عسكرية تركية هناك. البعض يشير إلى أن وجود القواعد العسكرية التركية فى العراق لم تكن وليدة عملية “الحزام الأمنى” التى تمت فى مارس الماضى، لكن وجودها سابق على هذا التاريخ؛ حيث يتجاوز عددها الـ 60 قاعدة. ومن ثم فإن هذا العدد يحتاج إلى قوانين منظمة لوجودها عسكرياً أشبه بالقوانين التى نظمت وجود قوات التحالف الدولى فى العراق مع اختلاف الأهداف والسياق. وهنا تكمن المعضلة نظراً لخضوع القوى السياسية المسيطرة على خريطة العمل السياسى فى العراق – وهى قوى الإطار التنسيقى – تحت التأثير الإيرانى، وبالتالى حتى وإن خرج المشهد السياسى لزيارة أردوغان بتوقيع فعلى لاتفاقيات أمنية استراتيجية كما يروج لذلك ليس فقط إعلامياً، بل على لسان وزير الخارجية التركى هاكان فيدان نفسه، فمن المتوقع أن تخضع تلك الاتفاقات لحالة من التجاذب السياسى داخل أروقة البرلمان العراقى بصورة قد تصل إلى مرحلة نزع الغطاء القانونى عنها، أو على أقل تقدير استخدامها فى المساومات السياسية بين السودانى من ناحية، والقوى المسيطرة على البرلمان من ناحية ثانية، وهى بالمناسبة الحاضنة السياسية التى جاء منها السودانى نفسه.
وجدير بالذكر هنا، أن تركيا تسعى عبر زيارة أردوغان للعراق إلى توقيع اتفاقية استراتيجية للتعاون بين البلدين تحظى فيها الاتفاقيات الأمنية بأولوية مطلقة، وإذا تم ذلك فستكون تركيا قد وازنت إيران التى عقدت مع حكومة السودانى خلال عام 2023 الماضى اتفاقية أمنية لضبط الحدود العراقية-الإيرانية المشتركة، والتى مكنتها من العمل ضد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المسلحة فى إقليم كردستان العراق.
كما يحظى الملف الاقتصادى بأهمية كبيرة فى تلك الزيارة؛ نظراً لأن كلتا الدولتين تواجهان أزمة اقتصادية فعلية، وتتمتع تركيا والعراق بعلاقات اقتصادية كبيرة، وتحرص أنقرة على زيادة معدل التبادل التجارى مع بغداد (حوالى 15 مليار دولار حالياً)، ويعتبر العراق خامس مستورد للمنتجات التركية وهى: المنتجات الغذائية والمعادن والصناعات الكيماوية. ويرتبط بالجانب الاقتصادى أيضاً، التعاملات الاقتصادية فى مجال تجارة النفط وهى فى الحقيقة تمثل أحد إشكاليات التعاون بين الحكومة العراقية وبين أنقرة؛ حيث قامت أنقرة خلال عام 2023، بوقف تصدير النفط العراقى عبر خط أنابيب العراق- تركيا، رداً على قضية تحكيم تقدمت بها الحكومة العراقية ضدها عبر غرفة التجارة الدولية، تعرضت بمقتضاها أنقرة لغرامة مالية ضخمة نتيجة لتصديرها نفط إقليم كردستان العراق بالتعاون المباشر مع حكومة أربيل دون الرجوع للحكومة المركزية فى بغداد خلال الفترة (2014-2018). يضاف إلى ما سبق أن الرئيس التركى سيسعى خلال زيارته لبغداد إلى الدفع تجاه تفعيل “مشروع طريق التنمية”، وذلك عبر الاتفاق على آلية مشتركة (لجان عليا أشبه بالمجلس الوزارى المشترك) تتولى مهمة متابعة خطوات بناء المشروع؛ وهو بالمناسبة مشروع إقليمى يضم دولاً أخرى فى المنطقة أبرزها الإمارات وقطر، ويربط بين ميناء الفاو العراقى بتركيا عبر شبكة كبيرة من الطرق والمواصلات. والمشروع يحقق لدوله ومن بينها تركيا والعراق تنمية اقتصادية كبيرة، لأنه سيربط الشرق بدول أوروبا عن طريق تركيا، وبالتالى توفير فرص اقتصادية للتجارة العالمية بين دول الشرق المنضوية فى المشروع وبين الدول الأوروبية التى ستفتح أسواقها لمنتجات الأولى. ووفقاً للمصادر العراقية من المفترض أن يتأسس المشروع على ثلاثة مراحل أولها سيتم خلال العام 2024 الحالى.
إلى جانب ما سبق يأتى أحد أهم ملفات التعارض الشائكة بين العراق وتركيا وهو ملف المياه ليشكل هدفاً من أهداف الحكومة العراقية التى تسعى إلى تسوية جادة بشأنه مع الرئيس التركى خلال زيارته للعراق، حيث تتحكم تركيا باعتبارها دولة منبع فى المصروف من مياه نهرى دجلة والفرات داخل الأراضى العراقية؛ ونتيجة لمجموعة السدود الضخمة التى تقيمها على نهر الفرات باتت العراق عرضة لحالة تصحر كبيرة نتيجة للجفاف الذى يتعرض له النهر، إلى جانب التغييرات المناخية الأخرى. فى هذا الإطار تسعى بغداد إلى التوصل لاتفاقيات مع أنقرة من شأنها تنظيم استخدام المياه وتوزيعها بصورة عادلة على الدول التى يمر بها النهر، وذلك عبر تفعيل “اتفاقية الإطار لنهر الفرات” التى وقعتها كل من العراق وتركيا وسوريا عام 2014، والتى تنظم التعاون بين الدول الثلاثة بشأن إدارة وتوزيع مياه النهر.
فى النهاية يمكن القول، إن القناعات السياسية المتبادلة بين الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء العراقى شياع السودانى بشأن أهمية ترقية التعاون المشترك بين البلدين انطلاقاً من زيارة أردوغان الحالية لبغداد، وفى ضوء الأهداف السابق عرضها، تتجه إلى بلورة ذلك التعاون فى عقد “اتفاقية شاملة للتعاون الاستراتيجى” وهى الأولى من نوعها بين البلدين. فبراجماتية تركيا المعهودة ستدفع الحكومة العراقية إلى تأطير علاقات التعاون المشترك فى صورة اتفاقيات متعددة الجوانب، لكنها فى الوقت نفسه ستؤسس تلك الاتفاقية على “معادلة للمقايضة” طرف منها أمنى (اتفاقات المنطقة الآمنة فى العراق ضد حزب العمال الكردستانى التركى المعارض) والطرف الآخر اقتصادى ( ملفات التبادل التجارى والنفطى ومشروع طريق التنمية). مع ملاحظة أن هذه المعادلة لن تكون بعيدة عن الاستهداف السياسى من جانب القوى السياسية المسيطرة على المشهد العراقى وارتباطاتها بإيران صاحبة النفوذ الإقليمى الأكبر فيه. وإن كانت تركيا ستلعب بقوة على حالة التناقضات السياسية الواضحة بين القوى السياسية فى العراق؛ سواء بين القوى الشيعية نفسها، أو بينها وبين القوى السياسية السنية، أو حتى تلك التناقضات السياسية الموجودة بين الحكومة المركزية نفسها وبين حكومة إقليم كردستان. وبالتالى سيكون الهدف الرئيسى لزيارة أردوغان الحالية هو المزج بين طرفى المعادلة (الأمنى والاقتصادى) لتكون معادلة “الأمن مقابل الاقتصاد” هى المعادلة الحاكمة للعلاقات العراقية-التركية على مدار السنوات المقبلة.