للوهلة الأولى، حلت بين إيران وإسرائيل حرب كلامية محل دوي الصواريخ والمسيرات. وأدلى خبراء الدعاية السياسية والتلفيق من كلا الجانبين بدلوهم من التهديدات المتبادلة الفورية.
لكن من السابق لأوانه تنفس الصعداء. لا يتبلور سلام في الشرق الأوسط، ليس بسبب العنف الشديد في غزة فحسب. أسباب التوتر والنزاع بين إيران وإسرائيل لا تزال كلها قائمة.
يصرف تركيزنا على ما يسمى الحرب “النشطة” انتباهنا عن الحرب الاقتصادية التي سبقت الضربات الصاروخية المتبادلة بين إيران وإسرائيل هذا الشهر، ومن المرجح أن تزداد حدة الآن.
منذ عام 1979، تواجه إيران عقوبات أميركية متفاوتة الشدة، وتزداد العقوبات حدة بسبب الشبهات الأميركية حول المشاريع النووية الإيرانية. وخلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، اتفق الجمهوريون بزعامة دونالد ترمب والديمقراطيون بزعامة جو بايدن في مجلس النواب الأميركي على فرض عقوبات أكثر صرامة – وربما عقوبات عسكرية – على إيران.
بطبيعة الحال، يعاني الإيرانيون العاديون مصاعب، إذ لا يستطيعون الوصول إلى كل شيء من الأدوية الحاصلة على براءة اختراع في الولايات المتحدة إلى قطع غيار من “بوينغ” للطائرات القديمة، لكن النظام الإسلامي يتمكن من مواصلة الوقوف على قدميه وتمويل مشاريعه الصناعية العسكرية. ويرغب النظام بأن ترفع العقوبات – لكن ليس على حساب إبطال أجندته، التي تتضمن مساعدات لعدوي إسرائيل المجاورين لها، “حماس” و”حزب الله“.
على النقيض من ذلك، مع تقييد الاقتصاد الإيراني بالعقوبات، تعد إسرائيل رائدة في مجالات العولمة والتكامل الاقتصادي وتكنولوجيا المعلومات مع الغرب الأوسع، بما في ذلك الآن قوى عربية مثل دولة الإمارات العربية المتحدة. وهذا يتناقض في صورة حادة مع العقود الأولى من الزمن من عمر البلاد، عندما رفضت مصر وصول السفن الإسرائيلية إلى قناة السويس وأثارت حرب عام 1967 من خلال منع الوصول إلى الميناء الإسرائيلي المطل على خليج العقبة.
حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بدت إسرائيل محصنة من حرب اقتصادية بقدر ما كانت محصنة من هجوم عسكري.
اقتصرت الحماسة لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها على مجموعات طلابية في جامعات النخبة الغربية – ألن يكبر خريجون من جامعة كولومبيا ليصبحوا محللين استثماريين يوصون بشراء أسهم شركات التكنولوجيا الإسرائيلية؟
بيد أن لإسرائيل نقطة ضعف.
هي غنية بالملكية الفكرية، لكن مواردها الطبيعية فقيرة، في حين تبدد إيران رأس مالها الفكري لأنها تملك نفطاً وغازاً يمكن إهدارهما في حرب سرية مع إسرائيل.
لا تكمن مشكلة إسرائيل اليوم في سحب الاستثمارات – ولو أن هناك مؤشرات إلى ذلك في بلجيكا وهولندا – بقدر ما تكمن في الحصار المادي القديم الطراز. من الهجمات على الشحن البحري في البحر الأحمر من قبل “الحوثيين” حلفاء إيران في اليمن، إلى استيلاء الحرس الثوري الإسلامي على سفن مملوكة لإسرائيل في منطقة الخليج، تأخذ كلف التأمين وتسليم البضائع في الارتفاع. وتعد الطرق البرية البديلة عبر الأردن إلى موانئ دولة الإمارات أكثر كلفة من الطرق البحرية في ما يخص البضائع الثقيلة – مثل المواد الغذائية والآلات والمركبات.
ليس أي شيء من هذا قاتلاً للاقتصاد الإسرائيلي، لكن اقتصاد السوق الحديث يعمل على هوامش الربح. ذلك أن إضافة كلف تقلل من القدرة التنافسية.
وتشكل الاقتصادات الأوروبية تحذيراً مختلاً بسبب رد الفعل السلبي الذي أصابها من العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الطاقة والمواد الخام الروسية.
ولا تستطيع القوة الجوية الإسرائيلية حماية شحنات بلادها البحرية على بعد 1000 ميل (1600 كيلومتر) جنوباً من “الحوثيين”، الذين يظهرون بالفعل قدرتهم على تحدي السفن الحربية الأميركية والأوروبية التي “تضمن” الأمن للشحنات البحرية الغربية المتجهة عبر البحر الأحمر إلى قناة السويس.
ولا يقتصر استخدام إيران للقرصنة في البحار البعيدة والتهديد المتوطن بالعنف على سماء إسرائيل، بل يستهدف الأرض أيضاً – ليس أقله في الضفة الغربية التي لا تحظى بتغطية كافية، إذ تقع عديد من المواقع المقصودة من الحجاج – وهو يقلص دخل إسرائيل من السياحة في صورة كبيرة.
وبسبب الحملة العسكرية على غزة، فضلاً عن المتطلبات الأمنية في الضفة الغربية وعلى الحدود اللبنانية والسورية، استدعيت أعداد كبيرة من العاملين إلى الالتحاق بـ”جيش الدفاع الإسرائيلي”.
في الماضي، حققت إسرائيل انتصارات حاسمة بسرعة. وحذر أول رئيس وزراء لها، ديفيد بن غوريون، من أنها لا تستطيع البقاء على قيد الحياة في حروب الاستنزاف الطويلة.
لقد أثبتت “حماس” صعوبة تحطيمها، بل ووحشية تداعياته. ألن تستمر الحرب مع “حزب الله” لفترة أطول وتعطل الاقتصاد الإسرائيلي أكثر؟ الأسوأ من ذلك أن إسرائيل خسرت شريكين إقليميين رئيسين كان دعمهما قيماً في العقود الأولى من الزمن من عمر استقلالها.
حتى عام 1979، وإبرام اتفاق السلام مع مصر، لم يكن لإسرائيل سوى صديقين إقليميين: إيران وتركيا – ليس من قبيل الصدفة أنهما مجتمعان غير عربيين في الشرق الأوسط. باعت إيران في عهد الشاه النفط إلى إسرائيل، وكانت تركيا العضو العلماني في حلف شمال الأطلسي معادية للأنظمة الموالية للفلسطينيين وللاتحاد السوفياتي في سوريا والعراق المجاورين. قد تكون بعض الدول العربية المسلمة صديقة لإسرائيل (بل وحليفة مثل المملكة الأردنية الهاشمية)، بينما إيران هي عدوها اللدود والرئيس التركي أردوغان يستقبل زعيم “حماس” إسماعيل هنية بقبلة.
ربما تكون قدرة إيران على البقاء على قيد الحياة بعد عقود من الزمن من الخنق الاقتصادي المحتمل علامة على أن كون أي دولة أكثر بدائية اقتصادياً (وكذلك قمعية) يجعلها أقل عرضة للضرر من حرب اقتصادية.
يبدي المجتمع الإسرائيلي التماسك الأكبر في مواجهة التهديدات الخارجية – حتى الآن. وتعود خلافية شخصية بنيامين نتنياهو لدى الرأي العام إلى الظهور مع استمرار الحرب. وإذا أضفنا الكلف الاقتصادية والاجتماعية إلى الخسائر البشرية، فإن حالاً جديدة من عدم اليقين تطارد إسرائيل.