نحو إعادة تشكيل شاملة لإستراتيجية واشنطن في شمال شرق سوريا

نحو إعادة تشكيل شاملة لإستراتيجية واشنطن في شمال شرق سوريا

تسلط التوترات المستمرة في الشرق الأوسط الضوء على دور الولايات المتحدة في الاستقرار الإقليمي وأهمية حلفاء واشنطن في مواجهة التهديدات؛ إذ تلعب منطقة شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، دورًا حاسمًا في الأمن الإقليمي من خلال منع عودة تنظيم داعش وتحدي تطلع إيران إلى الهيمنة على الإقليم.

ومع ذلك أظهرت الولايات المتحدة علامات الفوضى الإستراتيجية في معالجة هذه القضية، ما يستلزم اتباع نهج جديد يتجاوز جهود مكافحة الإرهاب الضيقة للاعتراف بالقيمة الإستراتيجية الأوسع لشمال شرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية.

و يرى محمد صالح، وهو زميل أول في برنامج الشرق الأوسط بمعهد أبحاث السياسة الخارجية، أن هذا يستلزم إعادة تشكيل شاملة لإستراتيجية الولايات المتحدة على مختلف المستويات بهدف تعزيز المنطقة التي تسيطر عليها قسد باعتبارها العنصر الأساسي لهدفها المتمثل في دحر داعش.

ويضيف صالح أن هناك أربعة مجالات رئيسية تتطلب اهتمامًا متزامنًا في إستراتيجية متعددة الأوجه: مكافحة داعش، وتعزيز الحكم المحلي، وإدارة العلاقات بين شمال شرق سوريا وتركيا، والتعامل مع دمشق.

ويجب أن تركز الإستراتيجية الأميركية الجديدة على دعم الحوكمة السياسية والاقتصادية في المنطقة، مع السعي إلى تخفيف الأعمال العدائية بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية وتوطيد علاقة المنفعة المتبادلة بين الطرفين من خلال تعزيز العلاقات التجارية.

الإدارة الأميركية تتجه إلى إعادة تقييم سياستها تجاه سوريا والنظر في وجودها العسكري طويل الأجل

وعلاوة على ذلك يجب أن تدعو الإستراتيجية إلى التوصل إلى اتفاق سياسي بين نظام الرئيس السوري بشارالأسد وقوات سوريا الديمقراطية لإرساء أساس استقرار أوسع في سوريا وضمان استمرار النفوذ الأميركي في المنطقة.

وانبثقت الشراكة بين الولايات المتحدة والأكراد السوريين من الالتزام المشترك بمحاربة داعش بعد فشل تعامل الولايات المتحدة مع جماعات المعارضة السورية الأخرى المدعومة من تركيا ودول الخليج العربية.

وكانت معركة كوباني في أواخر عام 2014 بمثابة بداية تعاون فعال بين الولايات المتحدة وقوات حماية الشعب الكردية وتطور هذا التحالف إلى قوات سوريا الديمقراطية، التي وحدت قوات حماية الشعب مع بعض جماعات المعارضة العربية والقوى القبلية، وبلغت ذروتها بهزْم داعش في عام 2019.

ومع ذلك نشأت التوترات عندما استولت تركيا وحلفاؤها السوريون على الأراضي الرئيسية في شمال شرق سوريا ذات الأغلبية الكردية في عامي 2018 و2019، ما جعل قسد تحوّل الموارد والاهتمام إلى مواجهة هذا التهديد.

وعلى الرغم من خسارة داعش للخلافة الإقليمية مازال التنظيم نشطا في سوريا وخارجها.

ولذلك يجب على الولايات المتحدة استكمال سياستها التي تركز على داعش بإستراتيجية محلية – إقليمية أوسع، ما يضمن نجاح جهود مكافحة الإرهاب في سوريا والمنطقة على نطاق أوسع.

الإستراتيجية عليها أن تدعو إلى التوصل إلى اتفاق سياسي بين النظام السوري وقسد لضمان استمرار النفوذ الأميركي

ويعتبر استمرار الوجود الأميركي أمرا ضروريا للحماية من عودة داعش، وهو ما يستلزم اتباع نهج شامل لمعالجة الديناميكيات الأمنية المعقدة.

وتشكل تركيا التهديد الرئيسي لشمال شرق سوريا، إذ أن الظروف الاقتصادية المتدهورة، والتي ترجع في المقام الأول إلى ارتفاع مستويات العنف من جانب تركيا، تهدد بقلب النظام الهش الذي سيطر بعد هزيمة داعش.

وقد كثفت تركيا مؤخرًا غاراتها الجوية على البنية التحتية المدنية الحيوية في شمال سوريا، مستهدفة محطات الطاقة ومحطات الوقود والشركات المحلية لجعل المنطقة غير قابلة للحكم وغير صالحة للعيش.

ويوفر الفقر والوحشية الناتجة عن مثل هذا الواقع الظروف المادية المثالية للإرهاب، ما يضع تركيا في موقع قوي يمكنها من الإمساك بمفتاح الاستقرار في شمال شرق سوريا.

وعلى الرغم من الأعمال العدائية الحالية فإن الديناميكيات بين تركيا والحزب الكردي الحاكم في شمال سوريا، حزب الاتحاد الديمقراطي، لم تكن دائمًا عدائية.

ولكن ما أدى في النهاية إلى انهيار العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية وأنقرة هو انهيار عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في عام 2015.

ولتحقيق تقدم في شمال شرق سوريا من الضروري، على الرغم من أنه يمثل تحديًا كبيرًا، تعزيز التفاهم بين تركيا وإدارة قوات سوريا الديمقراطية/شرق سوريا. وتتيح التطورات الإقليمية الأخيرة نافذة لهذا الجهد. وتدرك قسد أنه دون المصالحة مع تركيا يظل بقاء المنطقة معرضا للخطر.

استمرار الوجود الأميركي يعتبر أمرا ضروريا للحماية من عودة داعش، وهو ما يستلزم اتباع نهج شامل لمعالجة الديناميكيات الأمنية المعقدة

وعلى الرغم من تصريحات رجب طيب أردوغان العسكرية الأخيرة ضد قوات سوريا الديمقراطية، فإن موقف حزب العدالة والتنمية الضعيف في السياسة التركية بعد الانتخابات البلدية في مارس 2024 قد يدفع إلى مراجعة سياسته الكردية، مدفوعا بالحاجة إلى حلفاء جدد.

ويمكن لأردوغان أن يختار الشراكة مع الجماعات التركية العلمانية المتطرفة أو الإسلامية، أو التوصل إلى نوع من التفاهم مع حزب الديمقراطيين الرئيسي المؤيد للأكراد. ومن المسلم به أن تحقيق هذا الأخير أكثر صعوبة، ولكنه ليس مستحيلاً.

وعدم الاستقرار المتصاعد في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية يمثل لنظام الرئيس بشار الأسد ومختلف الميليشيات الموالية لإيران فرصة لتكريس النفوذ.

ويستغل النظام السوري وحلفاؤه الانقسامات بين قسد والقبائل العربية المحلية. وقد شجع احتمال الانسحاب الأميركي هذه الجماعات على تقويض المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما أدى إلى تزايد التوترات.

ويستلزم حل الصراع السوري مشاركة الأسد، كما هو مبين في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254.

وتدعم حكومة الولايات المتحدة أيضا تنفيذ هذا القرار باعتباره خارطة الطريق النهائية لإنهاء الصراع السوري.

وينبغي لواشنطن الضغط من أجل المشاركة السياسية بين قوات سوريا الديمقراطية وحكومة الأسد، إما كجزء من العملية التي تتوسط فيها الأمم المتحدة (على الرغم من أنها تبدو غير نشطة الآن) أو من خلال وسائل أخرى.

ومع عدم وجود تهديد كبير لاستمرارية نظام الأسد، يجب على الولايات المتحدة دعم إدارة شمال شرق سوريا في التفاوض على الحكم الذاتي واللامركزية مع دمشق.

Thumbnail
وستكون للفشل في دعم المفاوضات تداعيات سلبية على سياسة الولايات المتحدة في سوريا، ويشير إلى اللامبالاة تجاه حلفاء الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا ومستقبل المنطقة.

وهناك مؤشرات على حدوث تحول في نهج الحكومة الأميركية، حيث تشير التقارير إلى النظر في التوسط في اتفاق سياسي بين قوات سوريا الديمقراطية والأسد، في المقام الأول لمواجهة داعش على المدى الطويل. وكان الأسد قد أعلن عن إجراء محادثات سرية مع الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة.

وبخصوص التوصل إلى اتفاق سياسي بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، فإن التحدي الرئيسي يتمثل في عدم اهتمام حكومة الأسد الحقيقي بمثل هذا الاتفاق بسبب الاعتقاد في أن الولايات المتحدة سوف تغادر وأن دمشق يمكنها اجتياح مناطق قسد بعد ذلك.

ومن ثم لم يكن الأسد مستعداً للدخول في حوار جدي مع قوات سوريا الديمقراطية على الرغم من الضغوط المتفرقة من روسيا والجهود المتكررة التي تبذلها قسد.

ومع ذلك تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ كبير يمكنها من نشر الإصلاح الإستراتيجي لسياستها في سوريا.