إيران في سوريا: هل من جديد؟

إيران في سوريا: هل من جديد؟

لا جديد في القول إن الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة قد قلبت معادلات سياسية واستراتيجية راسخة في عموم المنطقة، وأن الصورة الأخيرة لهذه التحولات العاصفة ستتضح بصورة جلية بعد انتهائها. وتحتل إيران مركز الاهتمام بالنظر إلى علاقتها بهذه الحرب وتداعياتها المحتملة، من غير أن نقلل من أثر الحرب على الدول الأخرى في الإقليم أو في العالم. وإذا كان موقف النظام السوري شبه المحايد تجاه هذه الحرب قد أثار الكثير من التعليقات، فلم يخل الأمر من مؤشرات إلى تأثره العميق بالحدث المزلزل، على رغم نأيه الظاهر بنفسه عنها.
فقد أثارت المقابلة التي أجراها الإعلامي اللبناني طوني خليفة على تلفزيون «المشهد» مع «الناشط اليوتيوبي» بشار برهوم الكثير من العجب لأن المقابلة خصصت بالكامل للتهجم على إيران الحليفة الأكثر دعماً لنظام الأسد في مواجهة الثورة الشعبية في سوريا، وطالما تباهى ناطقون باسمها أنه لولا الدعم الإيراني لسقط النظام منذ السنوات الأولى للثورة.
وبرهوم شخصية معروفة على شبكة يوتيوب اشتهر بنقده للسلطة من موقع المؤيد، بمعنى نقد إجراءات الحكومة التنفيذية مع الإعلان الصريح عن تأييده للنظام. وكان مع ناشطين آخرين من البيئة الموالية قد عبروا عن موجة سخط كبيرة، في الصيف الماضي، تجاه الأوضاع المعيشية المتدهورة وتجاوزات أمراء الحرب والشبيحة بحق السكان في مناطق سيطرة النظام. وفي حين تجاوز نقد نشطاء آخرين الحكومة إلى «القيادة» كحال لمى عباس وماجد دواي وغيرهما، توقف برهوم عند «الحد المقبول» بنظر النظام، مع الإعلان الصريح عن استمرار تأييده للنظام ممثلاً برأس النظام و«الجيش العربي السوري».
في المقابلة التليفزيونية مع طوني خليفة لم يخرج برهوم عن هذا الخط، لكنه صب جام غضبه على الحليف الإيراني، وتجاوز كل الحدود في ذلك معتبراً «المشروع الفارسي أخطر من المشروع الصهيوني!» ورداً على سؤال من الإعلامي خليفة قال إنه لم ينل شرف إبلاغ إسرائيل بإحداثيات تواجد قادة الحرس الثوري في دمشق لتقوم باغتيالهم»! لكنه شرّع لنفسه «الاستعانة بالقرود السود للتخلص من الوجود الإيراني في سوريا»!
قد لا يمكن اعتبار برهوم ناطقاً بلسان حال النظام غير القادر على التعبير عن امتعاضه من العلاقة مع إيران، ولكن من الواضح أن النظام الذي لم يتعرض لبرهوم بأي أذى بسبب هذه التصريحات هو راضٍ ضمناً عنها. الأمر الذي يكشف مدى السخط المكتوم في دمشق من الحليف الذي ساهم في إنقاذه في أضعف حالاته، ثم تحوّل إلى عبء ثقيل الوطأة لا يعرف كيف يمكن التخلص منه.

النظام الغارق في مهاوي عجزه وأزمته، المرتبك أمام هول الحرب على غزة وتداعياتها، لديه سخط حقيقي تجاه العبء الإيراني بعدما انتهى دور طهران في حمايته

ذلك أن النظام الذي تراجعت لديه مخاوفه بشأن مستقبل ديمومته في السنوات الأخيرة، بعد سقوط حلب الشرقية في نهاية العام 2017، واستعاد مع الحليف الروسي السيطرة على ما يمكن من المناطق التي خرجت عن سيطرته إبان سنوات الصراع، عن طريق خطة «مناطق خفض التصعيد» الروسية، وانتهت الحرب بالنسبة له على تخوم منطقة إدلب وجوارها غرباً، ومناطق «الإدارة الذاتية» المدعومة أمريكياً في الشمال الشرقي، ومناطق السيطرة التركية في ريف حلب الشمالي، بات قانعاً بما تحت يديه، باحثاً عن حلول لمشكلات الاقتصاد المنهار والتفكك الاجتماعي والعزلة السياسية والسيادة المفقودة والمنتهكة، من غير أن يفعل شيئاً مما يتطلبه هذا البحث وتلك الحلول، مكتفياً بتكرار اتهاماته للآخرين دولاً أجنبية وسوريين معارضين، بدلاً من تحمل شيء من المسؤولية عن المستقبل إن تغاضينا عن مسؤوليته الأساسية عن إيصال سوريا إلى هذا الدرك من الانهيار والتقسيم العملي والهيمنة الأجنبية وتحويلها إلى ساحة للحروب بالوكالة والميليشيات متعددة الجنسية.
ولم يعد خافياً على أحد ما تمارسه إيران المأزومة بدورها من ضغوط على النظام لاستعادة شيء من المليارات التي أنفقتها على حربها في سوريا، عبر ميليشياتها ومستشاريها، للحيلولة دون سقوطه، من خلال فرض اتفاقات إذعان للسيطرة على عقارات ومرافق اقتصادية والإمساك بعنق النظام لتحصيل ما يمكن تحصيله، فيما يذكّر بالرقابة البريطانية المباشرة على مالية السلطنة العثمانية في السنوات القليلة التي سبقت سقوطها وتفككها، بذريعة تحصيل الديون المستحقة عليها. ومن جهة أخرى كثرت الاتهامات الإيرانية للنظام بتسريب معلومات إلى إسرائيل سهلت اغتيالها لقادة من الحرس الثوري في دمشق.
غير أن تصريحات بشار برهوم تعبر، من جهة أخرى، عن تصاعد الاستياء الشعبي من الوصاية الإيرانية في البيئة الاجتماعية الموالية، إذا صدقنا كلامه عن أنه «يعبّر عن رأي الشارع السوري» كما قال، متناسياً امتنان ذلك «الشارع» تجاه الحليف الإيراني الذي لا يمكن إنكار مساهمته الكبيرة في بقاء النظام وهزيمة الثورة السلمية واستعادة السيطرة على المناطق الخارجة عليها. ومن هذا المنظور يمكن قراءة تصريحات برهوم باعتبارها محاولة منه لحرف أنظار «الشارع» المشار إليه عن السبب الرئيسي لبؤسه، أي النظام، في اتجاه سبب خارجي متمثلاً هذه المرة في الحليف الإيراني بعدما كان منصباً على «تركيا الأردوغانية» التي طالما استقطبت كل عداء البيئة الموالية باعتبارها حاضنة التمرد على النظام والخطر الأكبر عليه.
ثمة عامل آخر لا بد من الإشارة إليه إذا عدنا إلى فرضية أن تصريحات برهوم بحق إيران هي لسان حال مشاعر النظام التي لا يستطيع التعبير عنها بصورة مباشرة، ألا وهو موضوع الانفتاح العربي عليه وفقاً لمشروع «خطوة مقابل خطوة» الذي كاد يطويه النسيان بسبب غياب أي خطوة من النظام مقابل الانفتاح العربي. فمن خلال هذا الناطق غير الرسمي يستطيع النظام توجيه رسالة إلى الأنظمة العربية التي تطالبه بخطوات مقابلة مفادها أنه يريد التخلص من الوجود الإيراني لكنه غير قادر على ذلك.
وثمة من يدرجون «إعادة الهيكلة الإدارية» التي قام بها النظام، في الأشهر الأخيرة، في الأجهزة الأمنية وحزب البعث وغيرهما، في الإطار نفسه من رد النظام على الانفتاح العربي المشار إليه باعتبارها جل ما يمكن أن يقوم به من «إصلاحات» بوصفها «حلاً سياسياً» لا يغير شيئاً في الواقع.
الخلاصة أن النظام الغارق في مهاوي عجزه وأزمته، المرتبك أمام هول الحرب على غزة وتداعياتها في لبنان وسوريا وإيران والبحر الأحمر، لديه سخط حقيقي تجاه العبء الإيراني بعدما انتهى دور طهران في حمايته، لكنه لا يستطيع تصريف هذا السخط سياسياً ولا إعلامياً.