ليس أعلى من أصوات الصواريخ داخل الحروب الدائرة من أوروبا إلى الشرق الأوسط ووصولاً إلى أجواء مضيق تايوان سوى الأحاديث عن سياسات الردع، ولا شيء يرافق شظايا الصواريخ على الأرض أكثر من شظايا الردع.
غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022 سجل أمرين بارزين، أولهما “نهاية مرحلة ما بعد الحرب الباردة”، كما كتب مدير الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”، وثانيهما نهاية إستراتيجية “الردع الموسع” التي تصورت أميركا أنها تحمي حلفاءها وأعلن الرئيس جو بايدن العودة لها بعد أن عمل سلفه دونالد ترمب على “التخلص من هذا الردع”، بحسب الخبير الإستراتيجي في “بروكنغز” مايكل أوهانلون، إذ دخل الرئيس السابق إلى البيت الأبيض وهو يعتقد أن “أميركا رهينة النظام العالمي الذي صنعته”، فبدأ يمارس “همجية الدبلوماسية الأميركية التي تركت أصدقاءنا مرتبكين وخصومنا متجرئين، وأسس النظام العالمي الذي حافظت عليه لسبعة عقود هشة”، على حد تعبير بيرنز.
عملية “طوفان الأقصى” على يد حركة “حماس” كشفت هزال الردع الإسرائيلي بمقدار ما زلزلت الدولة وصدمت المجتمع، وحرب غزة التي تمارس فيها إسرائيل قمة التوحش ضد المدنيين والعمران محاولة إسرائيلية لاستعادة قوة الردع ضمن أهداف أخرى بدت صعبة التحقيق، وفي طليعتها “القضاء على ’حماس‘”.
الكل يتحدث عن الردع، فـ “حزب الله” أوحى أنه تمكن منذ حرب عام 2006 من تحقيق ما سماه “توازن الردع” مع الكيان الصهيوني، وجاء وقت قيل فيه إن إسرائيل التي تقصف المراكز الإيرانية في سوريا والصواريخ والأسلحة الإيرانية الآتية إلى “حزب الله” تتجنب إصابة أي مقاتل من الحزب، خشية الرد عليها من لبنان ضمن “قواعد الاشتباك”.
لكن فتح الجبهة الجنوبية في حرب مضبوطة لإسناد “حماس” كشف عن أنه لا ردع ولا من يردعون، فلا “حزب الله” مردوع ولا إسرائيل مردوعة، والعمليات العسكرية تصل إلى مساحات جغرافية بعيدة وسقوط الضحايا مسألة يومية، وإسرائيل تهدد بحرب واسعة ومن بين أهدافها استعادة الردع، وأميركا أرسلت حاملات الطائرات إلى المتوسط وأعلنت أن الهدف هو الردع وليس الدخول في الحرب.
وإيران كانت ولا تزال تقاتل من خلال أذرعها في حروب غير مباشرة مع إسرائيل وضغوط على أميركا ومصالحها، وتعلن أن قوة الردع لديها تحول دون أي هجوم على أراضيها، لكن إسرائيل قصفت القنصلية الإيرانية في دمشق التي هي “أرض إيرانية” بالمعنى العملي، وقتلت مجموعة من قادة “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري.
وطهران وجدت نفسها مضطرة إلى الرد بشكل مباشر ومن الأراضي الإيرانية، فأرسلت أكثر من 300 صاروخ ومسيرة لضرب العمق الإسرائيلي تصدت لها أميركا وبريطانيا وفرنسا إلى جانب إسرائيل، ومع ذلك فإن إيران كررت الحديث عن الردع.
أما واشنطن فأجبرت حكومة نتنياهو، الذي يريد حرباً واسعة ليورط أميركا فيها، على أن يكون الرد محدوداً بقصف بطارية صواريخ في أصفهان للحيلولة دون أي رد إيراني آخر مباشر ينقل الحرب من تصعيد إلى تصعيد.
كان المفكر الصيني الإستراتيجي القديم سن تزو يقول إن “أعلى فنون الحرب إخضاع العدو من دون قتال”، وهو الذي ركز على نظرية “الجسر الذهبي”، أي ترك ممر أمام العدو كي يستطيع التراجع حين يكتشف أن هزيمته مؤكدة، وهذا ما يضيء على مشكلة أساس في الردع وهي غياب الإرادة السياسية للقتال، فلا أميركا تستطيع تحقيق الردع مع خصومها، وهي تعلن أنها لا تريد التورط في حرب، لا تورط مباشراً في حرب أوكرانيا مع تقديم الأسلحة والأموال إلى كييف، ولا حرب واسعة مع إيران مفتوحة على الشرق الأوسط كله، وحتى في المواجهة مع الحوثيين دفاعاً عن حرية الملاحة في البحر الأحمر فإن أميركا تكتفي بالتصدي للمسيرات والصواريخ الحوثية، كما بضرب بعضها على أرض اليمن، لكنها لن تذهب إلى حرب لتغيير اللعبة في اليمن.
الجمهورية الإسلامية تكرر القول إنها لن تذهب إلى “فخ حرب واسعة مع أميركا” تريدها إسرائيل، و”حزب الله” يقول إنه لا يريد الذهاب إلى حرب واسعة مع إسرائيل مع الاستعداد لها إذا اندفعت فيها حكومة نتنياهو، وفي مثل هذه القيود فإن من الصعب الرهان على قوة ردع بالفعل.
كان ونستون تشرشل يتحدث عن الاستعداد لحرب مع هتلر لا عن الردع حين أصدر كتاب “عندما كانت بريطانيا نائمة”، وهذا هو العنوان الذي استعاره أوبريان، أحد مستشاري الأمن القومي خلال رئاسة دونالد ترمب، لكتاب “عندما كانت أميركا نائمة”، والمقصود تنامي نفوذ إيران.
أما أبرهام لينكولن فإنه اعتبر “وجود قادة لا يريدون حرباً غير كاف، والمشكلة إن كانت هناك أشياء يريدونها أكثر من الحرب ويرغبون في الحصول عليها بقبول الحرب، والحرب الأهلية حدثت مع أن الكل خاف منها وأكد عدم حصولها”، ذلك أن الردع يحتاج إلى ما يتجاوز “توازن الأخطار” وإلى توازن “الأخطار والحوافز”، كما إلى الفارق بين كلفة الحرب ومردودها السياسي، فإذا رأى أي مسؤول أن الأهداف السياسية من الحرب تتقدم على كلفتها مهما كبرت، فإن الحرب تصبح حتمية، “وكل حروب أميركا حروب خيار” بحسب روبرت كاغان.
ويروي المحقق الأميركي من أصل لبناني جورج بيرو الذي حقق مع صدام حسين أن الرئيس العراقي اعترف له بأن “العراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، لكننا أوحينا أننا نملكها لئلا نضع العراق في موقع ضعيف إزاء إيران التي هي أخطر علينا من أميركا”.
تاريخ الفشل في الحروب يمكن اختصاره بكلمتين، “متأخر جداً”، كما نقل الرئيس نيكسون في كتاب “قادة” عن الجنرال دوغلاس مكارثر، وهذا ينطبق على الردع.