السوري كأنه أجنبي داخل بلده: إجراءات معقدة في التنقل والإقامة

السوري كأنه أجنبي داخل بلده: إجراءات معقدة في التنقل والإقامة

تفرض حالة تعدد جهات السيطرة والنفوذ في سورية، واقعاً جديداً على المجتمع، لا سيما على النازحين والمهجّرين قسراً والذين باتت أعدادهم بالملايين، إذ يواجه السوري الذي يضطر للعيش في منطقة غير منطقته، سواء خرج منها بإرادته أو مهجراً أو نازحاً، مصاعب وعوائق عديدة . الصعوبة تتمثل في تنقل السوريين والإقامة داخل بلادهم، بسبب الحرب التي دفعت سلطات الأمر الواقع في كل منطقة نفوذ لاتخاذ إجراءات تقيّد حرية التنقل، إضافة إلى الوضع الأمني المتردي في بعض المناطق.

وتتقاسم السيطرة في سورية، أربع جهات رئيسية، إذ تقع غالبية جغرافيا البلاد تحت سيطرة نظام بشار الأسد مع نفوذ لكل من إيران وروسيا، وذلك تحديداً غرب البلاد وجنوبها ووسطها. في حين تنتشر “الإدارة الذاتية” في مناطق شمال وشرق البلاد، فيما يقع ريف حلب الشمالي تحت نفوذ المعارضة السورية مع مساحة تمتد بين مدينتي رأس العين في محافظة الحسكة وتل أبيض في محافظة الرقة، تعد ضمن نفوذ “الجيش الوطني” الحليف لتركيا. أما منطقة إدلب ومحيطها فتخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وذراعها المدنية “حكومة الإنقاذ”.

موافقات أمنية من أجل تنقل السوريين
في مناطق سيطرة النظام، تعد إجراءات تنقل السوريين معقّدة أمام النازحين الذين يريدون السكن هناك، مع توجيه اتهامات للنظام بعدم موافقته على سكن المدنيين في مناطق معينة، وعدم السماح لسكان أصليين في مناطق أخرى بالعودة إلى مناطقهم، وسط شكوك برغبته بتغيير ديمغرافي.

لا تمنح الأجهزة الأمنية موافقة على السكن قبل الحصول على موافقة أمنية للمستأجر أو الشاري

وتفرض الأجهزة الأمنية التابعة للنظام في إطار القيود على تنقل السوريين موافقات أمنية على عقود الإيجار بغرض السكن أو الأعمال في مناطق سيطرة النظام منذ بداية النزوح السوري، وخصّت بها بداية النازحين إلى المحافظات والمدن الآمنة دون غيرهم من السوريين، لكن ما لبثت أن عمّمت فرض الموافقات الأمنية على كل أعمال الإيجار والاستملاك، من دون تفريق بين نازح أو قاطن، وفرضت على مجالس البلدات عدم إتمام أي معاملة تأجير عقاري أو بيع وشراء من دون موافقات أمنية. ولا تمنح الأجهزة الأمنية الموافقة قبل حصولها على معلومات مفصلة عن المستأجر أو الشاري وتحديداً النازح، تتعلق بأسرته وأقاربه وأصدقائه وعدد أفراد الأسرة وأعمارهم، فيما تتجاوز الموافقات معظم المعلومات عن المؤجر أو البائع. ويكثر التدقيق في هذه المعلومات في العاصمة دمشق وريفها بشكل كبير، فيما تقل في باقي المحافظات، ويمكن تجاوزها بالرشوة والوسطاء.

يقول المحامي أيمن شيب الدين، في تصريح لـ”العربي الجديد”، حول ما يطلبه النظام من أجل تنقل السوريين من موافقات أمنية للسكن بعد العام 2018، إنه “في دولة البعث العربي لا يحتاج الإيراني والروسي إلى موافقة أمنية للسكن، بينما يحتاج السوري إلى موافقة أمنية لاستئجار منزل يسكن فيه في وطنه”. سمير العبد الله، وهو اسم مستعار لمواطن سوري من محافظة درعا، كان قدره أن يحصل على وظيفة خاصة في دمشق، فذهب يبحث عن سكن بسيط في أطراف العاصمة، يقول لـ”العربي الجديد”: “كان أصحاب المكاتب العقارية يتفحصون شخصيتي كما لو كنت من كوكب آخر”، مضيفاً: “كنت أدرك أن الحصول على غرفة أمر صعب ومكلف وكنت مستعدا له، لكن التحقيقات التي أجراها معي أصحاب المكاتب تجعل أي مواطن سوري يكتشف أنه غريب، على الرغم من اعتذار هؤلاء عن صيغة الأسئلة حتى لا يقع أحد بالمحظور، إذ يجب أن يكون القادم (المستأجر) من منطقة ليست قابلة للشبهات الطائفية، ولا يوجد لدى هذا المواطن إخوة في السجون، أو خرجوا يوماً بتظاهرة ضد النظام، والأهم أن يجلب معه أوراق حسن سلوك من مختار المحلة التي يقطن فيها حتى ينال مراده في غرفة لا تتعدى 25 متراً”.

صحة
تحذيرات من انتشار اللشمانيا في مخيمات شمال غرب سورية خلال الصيف
مجدي سليمان (اسم مستعار) هو أحد أصحاب المكاتب العقارية في منطقة السيدة زينب بريف دمشق، يقول لـ”العربي الجديد”، إن “قرار الموافقة الأمنية على إيجارات العقارات لم يصل به أي تعميم هذه المرة كالسابق، ولكن يكفي أن تقوم بالإجراء الروتيني لأي معاملة إيجار حتى تصطدم بأن المستأجر بحاجة لموافقة أمنية كي يقطن في المنطقة التي بتنا فيها نحن سوريي الأصل ضيوفاً، بينما استعمرها المجنسون الجدد الذين تم استقدامهم إلى سورية بذريعة الحج والزيارة، ثم مُنحوا الجنسية السورية”. ويعتبر أن “الأمر ليس عفوياً، بل يندرج ضمن سياق التغيير الديمغرافي، فلماذا إذاً يجب على المواطن السوري القادم من أي محافظة الحصول على موافقة أمنية ليسكن منطقة سورية أخرى، فيما يجنّس أجنبي ويمنح حقوق مواطن كاملة”.

تقع منطقة السيدة زينب جنوبي دمشق، وتحتض مقاماً للسيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب، لذلك فإن إيران توغلت في تلك المنطقة عبر شراء العقارات وطرد السكان وباتت خاضعة بالكامل لنفوذها، بالإضافة إلى فرضها عمليات تجنيس وتوطين لمئات الأجانب ومن المقاتلين الذين يقاتلون إلى جانب قوات النظام ضمن مليشيات تدعمها طهران. يقول أبو عبدو، وهو ينحدر من مدينة دوما التي كانت معقلاً هاماً للمعارضة في الريف الشرقي لدمشق، لـ”العربي الجديد”: “نزحتُ مع عائلتي مع بداية الأحداث في مدينتي إلى محافظة السويداء، وحملت القليل من الحاجيات والأثاث المنزلي، وبعد بضعة أشهر من السكن والعمل في إحدى المزارع، قدم أخي وعائلته وكان لا بد من استئجار منزل كبير يستوعب العائلة، وبمساعدة بعض الأصدقاء الجدد في السويداء حصلنا على الموافقة الأمنية لزوم عقد الايجار، وذلك بعد استدعائي لإحدى الجهات الأمنية والتحقيق معي وتقديم كامل الوثائق والمعلومات عن الأسرة والمعارف ومكان العمل والسكن بطبيعة الحال”.

ويضيف: “بعدما هدأ الوضع الأمني في مدينتي، حاولت ان أزور منزلي في دوما، ولم أستطع إلا بعد حصولي على موافقة أمنية تسمح بالدخول والعودة، فقررنا الانتقال إلى مدينة جرمانا في ريف دمشق كمقدمة للعودة إلى منازلنا، وهنا كانت المشكلة الثانية بضرورة الحصول على موافقات أمنية لكامل العائلة قبل السكن، وهذه المشكلة استمرت لستة أشهر، ثم واجهنا مشكلة نقل الأثاث من السويداء إلى جرمانا وهذه احتاجت لموافقات، بالإضافة إلى مدفوعات ورشى للحواجز في طريقنا”.

في مناطق شمال وشرق سورية، فرضت “الإدارة الذاتية” على كل القادمين من مناطق أخرى إصدار ما يُسمى “بطاقة وافد”

بطاقة “وافد”
في مناطق شمال وشرق سورية، تفرض “الإدارة الذاتية” الكردية، على كل الوافدين من مناطق أخرى، أي النازحين بشكل رئيسي، إصدار ما يُسمى “بطاقة وافد” من قبل السلطات المحلية هناك مع وجود كفيل. وتعتبر السلطات أن هذا الإجراء له دوافع أمنية كي يتم الحد من توغل عناصر خلايا تنظيم داعش في المجتمع، إلا أن النازحين والراغبين في الإقامة في مناطق “الإدارة الذاتية” يعتبرونه تحجيماً لحرية تنقلهم في بلدهم.

الأسبوع الماضي، أجبرت “الإدارة الذاتية” نازحي منطقة القامشلي في شمال شرقي سورية على العودة إلى مناطقهم، من دون مراعاة الظروف الأمنية التي قد تواجه هذه العوائل، خصوصاً الفارين من مناطق سيطرة النظام السوري. كما باتت آلاف العائلات النازحة في المنطقة مُهدّدة بالترحيل وبمصير مجهول، وذلك بسبب قرار غير معلن من “الإدارة الذاتية”، من شأنه أن ينكأ جراح التهجير، بل والعودة بالنازحين إلى نقطة الصفر. وبدأت السلطات الأمنية هناك بتوجيه تبليغات للنازحين من الرقة ودير الزور وغيرها من المحافظات من المقيمين في القامشلي ومناطق متفرقة من ريف الحسكة، بوجوب مغادرة المدينة، مع إلزام بعض العوائل التي لا تملك “بطاقة وافد” بالتوقيع على تعهّد مغادرة خلال أيام.

و”بطاقة وافد” المعروفة بـ”الكفالة” استُحدثت من قبل “الإدارة الذاتية” بعد عام 2016، ضمن إجراءات تنقل السوريين وتُمنح للسوريين من خارج مناطق نفوذ الإدارة، ويسمى المواطن السوري الحائز على البطاقة رسمياً “وافد”، وبذلك ترتب على المواطنين المقيدين بقيد النفوس في الشمال الشرقي لسورية من محافظة الحسكة وأجزاء من دير الزور ومحافظة الرقة، كفالة الوافدين إليها من المناطق السورية الأخرى، وفقاً لتوضيحات مصدر من “الإدارة الذاتية” لـ”العربي الجديد”.

وعند نشر تلك المعلومات من قبل “العربي الجديد” في تقرير أعده بناء على شهادات المتضررين، تلقت ردا من سيهانوك ديبو، القيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، أكبر أحزاب “الإدارة الذاتية”، إذ قال ديبو إنه “ليس هناك ترحيل، ويمكننا القول إنّها عملية تنظيم، هو إجراء اعتيادي وليس ترحيلاً كما يروّج”. أحد الذين تحدثت إليهم “العربي الجديد” (فضّل عدم الكشف عن هويته)، وهو من سكان المنطقة، يشير إلى أن صديقاً له يأتي شهريا إليه من محافظة أخرى، بغرض الزيارة والقيام ببعض الأعمال التجارية، مضيفاً أنه في “كل مرة يريد القدوم فيها، عليّ الذهاب لتقديم طلب زيارة له في أحد المعابر كي يسمحوا له بالدخول في زيارة لمدة 15 يوماً قابلة للتجديد، وهذا لم نعتد عليه في السابق”.

طلبت الشرطة العسكرية في مناطق المعارضة ممن يود التنقل مراجعة فروعها

مراجعات أمنية وابتزاز
بداية العام الماضي، أعلنت إدارة “الشرطة العسكرية” التابعة لـ”الحكومة السورية المؤقتة” الذراع المدنية للمعارضة الممثلة بـ”الجيش الوطني” شمال حلب أو في المناطق الخاضعة للنفوذ التركي، عن بدء العمل في معبر عون الدادات (الإنساني) في ريف مدينة جرابلس شمال حلب، والفاصل بين مناطق المعارضة من جهة، ومناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” بريف مدينة منبج شرقي محافظة حلب. حينها طلبت الشرطة العسكرية من كل من يود التنقل من وإلى مناطق سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة” مراجعة فروع الشرطة العسكرية ضمن مناطق سيطرتها.

ومن ضمن القيود على تنقل السوريين كانت السلطات الأمنية هناك قد فرضت على كل شخص قادم من مناطق سيطرة النظام أو مناطق “الإدارة الذاتية” وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إحضار كفيلين اثنين حاملين هوية مجلس محلي من مناطق سيطرة “الحكومة المؤقتة”، والتعهد بعدم الدخول إلى تركيا، وفي حال حدث ذلك تفرض بحقه غرامة مالية والسجن. كما منعت ضمنياً الذكور ممن أعمارهم 30 عاماً وما دون من مغادرة مناطق سيطرة “الحكومة المؤقتة” تجاه مناطق سيطرة النظام و”الإدارة الذاتية”.وحتى السوريون المرحّلون من الأراضي التركية إلى مناطق سيطرة “الجيش الوطني” لم يسلموا من إجراءات تنقل السوريين التي تعيق حركتهم، وصل بعضها إلى الابتزاز، إذ تقوم الشرطة العسكرية في مدينة جنديرس بتوقيف المرحّلين وابتزازهم بمبالغ مالية بين 3000 و5000 ليرة تركية (الدولار يساوي نحو 32,5 ليرة تركية) استناداً إلى قرار صدر عن المجلس المحلي لمدينة جرابلس يقضي بتغريم كل من يتجاوز الحدود التركية إلى سورية بطريقة غير شرعية بمبلغ 3000 ليرة تركية وكل من يحاول تجاوز الحدود من سورية إلى تركيا بمبلغ 5000 ليرة تركية.
ويؤكد محمد الإبراهيم، المرحّل من تركيا، لـ”العربي الجديد”، أنه بعد وصوله إلى مدينة جنديرس تم إيقافه من قبل الشرطة العسكرية في جنديرس ولم يفرج عنه إلا بعد دفع مبلغ 1500 ليرة تركية ادعت الشرطة العسكرية أنها للمجلس المحلي، موضحاً أن الشرطة العسكرية لم تعطه أي إشعار باستلام المبلغ أو أي وثيقة يستطيع التنقل بها.

مصادرة أملاك
وفي إدلب، شمال غرب سورية، والخاضعة بمعظمها لسيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، لا تطلب السلطات المحلية هناك ممثلة بـ”حكومة الإنقاذ” أي إجراءات لسكن الوافدين أو النازحين أو المهجرين قسراً، إلا أن الأجهزة الأمنية هناك تعمل على دراسات أمنية لاحقة للسكن على أي وافد يصل إلى مناطقها، خصوصاً بالنسبة للوافدين من مناطق سيطرة النظام أو مناطق “قسد”، وهم في معظمهم من أبناء المنطقة الذين يودون العودة إلى مناطقهم. كما تقوم الهيئة بمصادرة أملاك أي مواطن يغادر مناطقها إلى مناطق سيطرة النظام أو مناطق سيطرة “قسد”.

وفي إطار الإجراءات المفروضة على تنقل السوريين في إدلب، يقول محمد ق. المقيم في مدينة بنش والذي رفض كشف كنيته لأسباب أمنية، لـ”العربي الجديد”، إن “تحرير الشام” خيّرته بين أن يخلي منزل والده الذي يسكن فيه وبين دفع مبلغ 100 دولار شهرياً كإيجار، موضحاً أن الهيئة قررت مصادرة منزل والده لكونه موظفا في دمشق ويقيم فيها. ويضيف: “كنتُ أسكن في منزل والدي وأنا الوريث الوحيد له وعلى الرغم من أنني من مؤيدي الثورة اضطررت لاستئجار منزل بمبلغ أقل وإخلاء منزل والدي الذي سيطرت عليه الهيئة”. وتحوي المنطقة خليطاً من جميع المحافظات السورية، لاسيما بعد حملات التهجير القسري من حمص وريف دمشق ودرعا، وحركات النزوح من ريفي حلب وحماة، بالإضافة إلى وجود نازحين ومهجرين من جميع المحافظات، لا يُطلب منهم أي إجراء للإقامة والسكن، سواء في المخيمات أو خارجها.