تناولت في مقالي السابق مؤشرات مهمة دولياً وشرق أوسطياً، لقناعتي أننا اقتربنا بل تجاوزنا حافة الهاوية، وننزلق في منعطف بالغ القسوة والخطورة، وأبرزت بصفة خاصة لجوء الأطراف الدولية والشرق أوسطية إلى حلول صفرية في معادلاتها وعلاقاتها الخارجية، وأن البعض يتبنى سبلاً ومعادلات خالية من كل اعتبارات الإنسانية في مناخ من العسكرة المتنامية جعلت زيادة الإنفاق العسكري الدولي تتجاوز الزيادات في ما ينفق على البرامج الإنسانية، وفي حساباتهم افتراضات عملية لاستخدام أفتك الأسلحة عالمياً وشرق أوسطياً وهي الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى.
وأعود إلى الموضوع نفسه اليوم لخطورته، وباعتبار أن ساحتي أوكرانيا وغزة شهدتا مزيداً من التدهور والتوتر، فأصبح الغرب يتهم روسيا باستخدام غازات خانقة في مخالفة صريحة للحظر القائم على استخدام الأسلحة الكيماوية، وهو اتهام واجب التدقيق والتحقيق فيه، فإذا ثبتت صحته يعتبر دلالة واضحة على التصعيد السياسي والعسكري بين الطرفين، وإذا تبين عدم سلامته يعتبر مؤشراً آخر لرغبة الغرب في شيطنة روسيا وعدم التعايش معها، مما لن يترك من دون رد فعل منها.
وفي الشرق الأوسط بالتوازي مع جهود مصرية – قطرية للتوصل إلى اتفاق بين “حماس” وإسرائيل لتبادل مختطفين ومحتجزين في سياق وقف ممتد لإطلاق النار، هناك إصرار إسرائيلي معلن على رفض مبدأ وقف الحرب على غزة من أجل الاحتفاظ بحقها في شن عمليات عسكرية مطلقة ضد الفلسطينيين.
وناقض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تصريح وزير خارجيته بصورة مباشرة، وأصر على أن قيام إسرائيل بعمليات عسكرية شاملة في رفح سيظل قائماً ولا تراجع عنه، حتى إذا توصل إلى اتفاق حول تبادل مختطفين ومحتجزين، وأكد أنه لا يمكن انتهاء الحرب إلا بعد القضاء على “حماس” كلية. وقد سبق أن أعلنت إسرائيل أنها تستهدف القيادات “الحمساوية” في أي مكان داخل أو خارج قطاع غزة، ولم يحد نتنياهو من تصعيده المستمر وطرح الأمور على أنها غالب أو مغلوب في معادلة صفرية.
وكان لافتاً للنظر تصريح بعض قيادات “حماس” في شأن استعدادهم التخلي عن الخيار العسكري والوصول إلى اتفاق مع إسرائيل إذا توصل إلى اتفاق يؤمن حلاً من دولتين مستقلتين بين إسرائيل وفلسطين، وهو ما عقب عليه الناشط السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي بأنه يشكل تحولاً جذرياً في موقف الحركة إذا صدقت تلك المقولة، وإنما يلاحظ أيضاً تصريحات عن السلطة الفلسطينية تشدد على عدم نجاح مشاورات السلطة و”فتح” مع “حماس”.
كما كان لافتاً للنظر أيضاً تصريحات لبعض كبار الأجهزة الاستخباراتية الأمنية الإسرائيلية السابقين بخاصة أمي أيالون، الذي رأس الأمن الداخلي، حين دان عمليات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 التي نفذتها “حماس”، إنما أعلن أن قوة الحركة وصدقيتها ليست في قدراتها العسكرية وإنما في رسالتها أنها طرف مقاوم للاحتلال، وأنه لا يمكن القضاء على جاذبية وخطر تلك الرسالة بعمليات عسكرية.
واستطرد أيالون مؤكداً أيضاً أن أمن إسرائيل لن يتحقق إلا بالقضاء على فكرة مقاومة الاحتلال، بالفصل بين الشعبين في دولتين بالاتفاق بينهما مصحوباً بترتيبات أمنية، بل دعا إلى الإفراج عن المعتقل مروان البرغوثي على رغم الأحكام الصادرة في حقه، باعتباره زعامة فلسطينية وسطية لها صدقية.
في ضوء كل هذه الاعتبارات التي تغلب عليها الجوانب السلبية والأخطار، أو تطرح شكوكاً حول بعض البوادر الإيجابية أعتقد أن صيف 2024 سيكون فاصلاً، ليس بالضرورة في حسم النزاعات، وإنما في تحديد ما إذا كنا قد تجاوزنا نقطة اللارجعة في التوجهات الدولية والشرق أوسطية الخطرة، لأن المعارك في كلتا الساحتين احتدت وطالت، وهناك ضغوط سياسية دولية ووطنية على الكل لإثبات النجاح على حساب آخرين، فضلاً عن اعتبارات سياسية دولية متعددة تدفع القيادات إلى محاولة الحسم والظهور باتخاذ مواقف قوية وقرارات حاسمة لعدم تفاقم الأمور، وللحد من النزاعات سياسياً، أو بمحاولة حسمها عسكرياً.
وتتعدد الضغوط المتنوعة، بعضها ارتباطاً بانتخابات في الخريف والبعض الآخر نتيجة لتنوع التحالفات السياسية، ويشمل ذلك القيادات الدولية في الولايات المتحدة وروسيا وغيرهما، والإقليمية في إسرائيل وفلسطين وآخرين، من أجل إحداث تغيير في ائتلافات وكذلك الأشخاص، لذا سيكون صيفاً حاسماً يوضح ما إذا كنا قد تجاوزنا خط الرجعة وأمام صدام مباشر وخطر، أم أن خطورة المواقف وتداعياتها قد أفاقت الأطراف بالقدر الكافي، وسنشهد بداية نحو التراجع المنشود والعودة إلى رشد التعايش ووضع حد للعسكرة المبالغ فيها وعديمة الإنسانية.
وهناك حاجة ملحة إلى خلق آليات أو الاستفادة من آليات قائمة من أجل تحويل الدفة نحو البديل الأفضل والأسلم، وللتغلب على الحساسيات الأميركية والغربية تجاه التعامل مع روسيا، وما يقابلها من تردد من الجانب الروسي حول وضع أي قيود على حقها في استخدام الأسلحة النووية إذا لزم الأمر، وأقترح استغلال آلية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن للتمهيد لمحادثات أوسع حول أوكرانيا.
ومن ناحية أخرى استغلال آلية مشاورات الدول النووية الخمس، وهي نفس الدول أعضاء مجلس الأمن، وإنما باختصاص مختلف للتباحث حول كيفية تهدئة الجدل حول استخدام الأسلحة النووية بينها، وأمور أخرى مثل تخفيض درجات الاستعداد، وتجنب الإطلاق عن خطأ، وتقدير تداعيات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الصناعي على استخدام الأسلحة النووية.
وشرق أوسطياً وعربياً بانعقاد القمة العربية في البحرين من المنطقي أن تكون لأحداث غزة الأولوية في غياب اتفاق جزئي حول تبادل المختطفين والمحتجزين ووقف إطلاق النار، وإنما لن تستقر الأمور، أو نخرج من حلقات العنف والعنف المضاد، إلا بالتعامل مع الأزمة في غزة ضمن إطار متكامل مع المشكلة الجوهرية، وهي الاحتلال الإسرائيلي الممتد من عقود طويلة، لذا بالتوازي مع أي جهود لتحقيق وقف إطلاق النار أو تنفيذ اتفاقات تبرم بهذا الهدف أقترح تقدم العضو العربي في مجلس الأمن بمشروع قرار يضع إطاراً سياسياً شاملاً بإجراءات محددة تتعامل مع الأزمة والمشكلة وتنفذ خلال 24 شهراً.
واستعرضت تلك النقاط في مقال سابق، أوجزها أهمها في وقف إطلاق النار، وتوفير المساعدات الإنسانية، وتبادل مختطفين ومحتجزين، وترتيبات أمنية وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، وخطة دولية لإعادة بناء غزة، وعودة النازحين إلى ديارهم، وتشكيل حكومة فلسطينية شاملة للقطاع والضفة الغربية، والدعوة إلى انتخابات إسرائيلية وفلسطينية خلال 12 شهراً، وإعادة تأكيد قرارات القمة العربية في بيروت لعام 2002، وإعلان الاعتراف بدولة فلسطينية تحت الاحتلال على أساس حدود 1967.
وبالتوازي مع هذا الجهد أرى أن على القمة العربية وضع آلية للحوار والتداول لبلورة تصور أو تصورات عربية لمستقبل الشرق الأوسط، في علاقاتها الإقليمية والدولية، وفي منهجيتها الاجتماعية والاقتصادية، وغالب دولنا تمر بمرحلة تطور مجتمعي، تسعى إلى تنويع اقتصادها ومواردها الداخلية والخارجية، ويجب أن يشمل التصور رؤى لمستقبل المنطقة وآلياتها الأمنية. وخشية أن يتوسع سباق انتشار نووي عسكري في الشرق الأوسط وتلجأ أطراف إلى استخدام تلك الأسلحة الفتاكة يجب الاهتمام بوجه خاص وعلى نحو الأولوية لمنع الانتشار النووي في الشرق الأوسط وإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، كخطوة مبدئية أدعو الدول النووية والدول الشرق أوسطية إلى مخاطبة مجلس الأمن بتأكيد تأييدهم إعلانها خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى.
كما أدعوهم إلى تأكيد عدم اعتدائهم أو تعرضهم لمرافق نووية سلمية بالمنطقة خاضعة لضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، هذا فضلاً عن التوسع في تطبيق إجراءات التفتيش على تلك المرافق من خلال الوكالة الدولية.